#أخبارفن وثقافة

السخرية: تلقيح ضد الوباء

د. عبد الله الشيخ
ناقد فني وأستاذ باحث

هذا الكتاب الذي تشرفت بتقديمه بمثابة رصد توثيقي للزمن الكوروني الموبوء بالمغرب منذ صدمة تسجيل أول حالة إصابة بالدار البيضاء في اليوم الثاني من شهر مارس عام 2020 لتتداعى كرونولوجيا الوقائع حاملة معها قرائن الموت والضياع والآهات على آثار خفي الأنين بتعبير الأديب والناقد حسن نرايس.

فبعين سيناريستية ثاقبة، التقط الكاتب كل مشاهد زحف الوباء الذي استحضر في مخيلته قصيدة “الكوليرا” للشاعرة نازك الملائكة، وكذا رواية “الطاعون” لألبير كامو، كاشفا عن هشاشة الكائن الإنساني، وقلقه الوجودي بين براثن الخوف والخوف من الخوف. فبناء على منطق التوازي البلاغي، يتزامن انتشار السخرية بمفهومها العام مع انتشار الوباء. السخرية كمتنفس جماعي… السخرية كتجاوز للمعنى المأساوي للواقع (فرويد)… السخرية كأقرب الإبداعات إلى الجد والجدية… السخرية كأسلوب مقاومة وعلاج للآخرين (كونديرا)… السخرية كنسيج متين للعلاقات الاجتماعية (أرسطو)… السخرية كطاقة من الوعي الجديد (نوال السعداوي) … السخرية كرؤية نقدية تحررية ثائرة (باختين)… السخرية كنوع من التلقيح ضد الوباء وضد الخوف من المجهول (بتعبير الكاتب) … السخرية كفرح مفرط (سبينوزا)… السخرية كابتهاج يتضاعف بتذكر المشاق والآلام (ديكارت) … السخرية كتعبير عن الفكر لا عن الانفعال (أفلاطون)… السخرية سلاح الأعزل المغلوب على أمره (فولتير)… السخرية كنوع من المعارضة السياسية (غسان كنفاني)…

أسس الكاتب مقاربته النقدية للسخرية في زمن كورونا على كل السياقات المرجعية المذكورة ذات المنظومات المفاهيمية المختلفة، فهو قارئ نهم لأمهات الأدبيات التنظيرية والتاريخية التي نقف عند خلفياتها المعرفية في مؤلفيه “الضحك والآخر، صورة العربي في الفكاهة الفرنسية”، و”بحال الضحك: السخرية والفكاهة في التعبيرات الفنية المغربية”.

في تضاعيف هذا الكتاب الشيق والممتع، تسقط كل الأقنعة بما فيها أقنعة الكمامات، ويشهر سلاح الاحتقار في وجه كورونا الجبان الذي يظهر ليختفي… فالكاتب يتبنى الطرح البرغسوني القاضي بأن عالم الضحك شبيه بعالم التشريح إذ يكشف الحجاب عن كل الأخلاقيات الفردية والجماعية السائدة، ويقوم بخلخلة كل العلاقات الاجتماعية موحدا الأفراد داخل المجتمع المغلق. تستهدف هذه السخرية النفس الأمارة بالإضحاك حسب تعبير الكاتب، فالضحك من منظوره ذكي لأنه يضحك على ما هو بليد في الكيان الإنساني، فهو يترتب عما نشعر به ونحس به، لا عما ندركه ونفهمه.

طاردتنا السخرية في كل مكان كما طاردنا الوباء الكوروني الذي سولت له نفسه أن يتربص بالحياة ويقض مضاجعها، ويعمق غياهب ظلمتها. تفجرت تعابيرها الفكاهية مع كل الأحوال والمقامات: حالة الطوارئ، الحجر الصحي، عيد الأضحى، فوضى الطرق، التباعد الجسدي، عملية التلقيح، مراسيم تشييع الجنائز، استعمال الكمامة، القرارات الرسمية ، الحرب الساخرة بين المناطق، القايدة حورية، رخصة الخروج، صندوق الجائحة، المدارس الخاصة، الطاقة الاستيعابية للفضاءات…

نقل الكاتب بأسلوبه السلس والمقتضب ما تداولته المواقع الفايسبوكية من تدوينات افتراضية في ظل الأجواء الكورونية المتجهمة ، ناشرا نماذج تعبيرية موحية بريشة الفنان الكاريكاتوري عبد اللطيف العيادي التي أضفت على المتن السردي مسحة جمالية أخاذة، خالقة تصاديا بلاغيا لافتا بين الفضاءين الخطابي والأيقوني، مشكلة متنفسا طرائفيا للقراء الفعليين والمفترضين إلى جانب القصائد الزجلية الساخرة التي جادت بها قريحة كل من المهدي عويدي وأحمد الكرش وخالد فولان.

يقر الكاتب جازما بأن بإمكاننا الضحك على الوباء بعوالمه وتداعياته، لكن لا يمكننا بأي حال الضحك مع الوباء بجبروته وخطورته، فالعالم قبل كورونا هو العالم بعدها تحت سحر السخرية التي تستبعد الخوف، وتخفف من أوزار الحياة، وتبدد سوداوية الواقع ومأساته . أليست السخرية أداة للحد من وطأة القيود النفسية والإكراهات الاجتماعية؟ ألم تعزز أواصر التماسك الاجتماعي بين الأفراد والجماعات؟ أليست أيضا عزاءنا الأخير بتعبير ناجي العلي؟

يبرهن كتاب “السخرية في زمن كورونا” ،مرة أخرى، على مدى النبوغ المغربي في إبداع النكت والمستملحات حول سائر الآفات والأوبئة (جنون البقر، أنفلونزا الطيور…)، إيمانا منه بأن الضحك ملح الحياة، ومقاومة علنية ضد اليأس والعبث والمجهول. فالعالم الذي انتهت فيه بتعبير حسن نرايس قراءة المدن السفلى، وأضحت فيه المدن بدون ملح وأمسى فيه العالم بلا خرائط لا ملاذ له سوى السخرية لتحصين ذاته، والوعي بوجوده، وهزم عبث زمانه الذي انقلبت فيه المعايير، وافتقدت فيه المعالم.

بين القلق والفرح، بين الألم والأمل، يذكرنا الكاتب بزمن الرحيل القاسي الذي طال زمن كورونا: رحيل الذين نحبهم من صناع الحياة ومهندسي الجمال أمثال فيلسوف السينما والصديق الحميم للكاتب نور الدين الصايل، وجبران الثريا (بلغة الكاتب)، والشناوي، والجندي، والمليحي، وجمال بوسحابة، وادريس البشوش، وحكيم عنكر، وحسن السوسي، وعزيز الفاضلي، وسعد الله عزيز، وآخرين…

حقا، عزيزي حسن نرايس، في زمن كورونا “بكينا بكاء طفلين معا، وسبقنا ظلنا إلى مقبرة الشهداء” كما بحت بذلك. نردد بعد قراءة كتابك القيم: “ضحكنا ضحك طفلين معا ، وعدونا فسبقنا ظلنا إلى محفل الحياة وبهائها”. حقا، لم نأخذ زمن كورونا محمل الجد والمأساة، بل أخذناها محمل الضحك والملهاة، جاعلين من السخرية ترياقنا وبلسمنا وتلقيحنا الاختياري الناجع.

casablanca dade24 dade 24 dade24.com Ericsson lydec إريكسون الإمارات الجامعة الأمريكية في الإمارات الجسمي الدار_البيضاء الدارالبيضاء الدار البيضاء الدار البيضاء سطات الدورة الشركة العربي_رياض المجلس المغرب المغربي المكتب الملك الوداد الوطني جمال_بوالحق جهة حزب حسين الجسمي دورة رئيس شركة ضاد 24 ضاد24 عمالة فؤاد عبدالواحد ليدك مجلس محمد_السادس محمد السادس مدينة مديونة مراكش مقاطعة نجوى كرم وحيد_مبارك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى