العربي رياض
عند تعارف الفنان العالمي جيمي هاندريكس بلمعلم عبد الرحمان باكو بغابة “الديابات”، ليدخل الثنائي في جذبة عزف تزاوج بين آلة السنتير وآلة القيثارة مرفوقة بالنقر على الإيقاع بواسطة ” لقراقب ” ستجعل هاندريكس يندمج وينسجم ليسافر مع الموسيقى والإيقاع لكناوي عبرالرقص المستقى من ثقافة الهنود الحمر، يقول عبد الرحمان باكو: إذا رأيت جيمي في تلك الحال تشعر أنه لا يحس إلا بآلته غير مبال بكل ما يحيط به، كانت الموسيقى هي الهواء الذي يتنفسه.. أعجبت به كثيرا، ومازاد إعجابي به بساطته وعفويته، فطنت ساعتها أنه مجذوب مثلي ومثل رفاقي في عالم تاكناويت، تارة تجده جاثيا على ركبتيه وتارة أخرى يقفز إلى الأعلى، يتمايل بجسده بشكل ملفت وكأنه ولج سراديب الحال، كل أطراف جسده تتصبب عرقا ورأسه مطأطأة بشكل ملفت إلى الأسفل، غير أن المثير في الأمر أن الرجل ظل محافظا على نغمات العزف متجاوبا مع ما أعزف رغم أنه دخل في حالة من اللاشعور، رغم أننا كنا فقط نرتجل تلك المعزوفات النابعة بكل عفوية من أعماقنا ودون سابق ترتيب، وكيف سنرتب وأنا قد تعرفت للتو على الرجل ولم يسبق أن ربطت بيني وبينه أية علاقة، ثم إني في تلك الفترة لم أكن أجيد لغته وهو لا يعرف حرفا من لغتي، فقد كنا نعتمد فقط على ترجمة أصدقائنا المشتركين إذا أردنا تبادل الجديث ؟ تيقنت أنه فنان لا مثيل له لأني خلال العزف كنت أجره إلى عالم كناوة أي إلى عالمي، وتعرفون أن الإيقاع لكناوي من أصعب الإيقاعات حتى على أبناء البلد فكيف لأجنبي أن يندمج معه بسرعة وبدون تمرين ؟ عندما انتهينا من العزف وجلس ليستريح منتشيا بجدبة جددت روحه وأنعشتها، أسر لي بكلام ترجمه صديقه هامسا بأنه لم يسبق له أن بلغ مثل هذا الإحساس الرائع أو أحس بآلة أخرى تجاوبت مع آلته مثل آلة السنتير .. كانت تلك شهادة كبيرة في حقي وظل أصدقائي من أبناء الصويرة ممن يرافقونني لغابة ” الديابات” يحكونها في المدينة لسنوات، وكنت أول وآخر كناوي عزف مع هذا الفنان المحبوب …
صداقتنا ستأخذ بعدا آخر، إذ أصبح هاندريكس كثير الالتصاق بي طيلة مدة إقامته بالصويرة، ففي اليوم الموالي بعد لقائنا مساء، دعاني إلى منزل أحد أصدقائه، وكان هذا الصديق مولعا بالموسيقى الروحية لهذا، أعتقد، طلب مني هاندريكس أن أرافقه، كان المنزل غاصا بالحضور، وأصر هاندريكس على أن يعرفني عليهم واحدا واحدا وأن يتعرفوا علي بالمقابل، وسأكتشف أن جل الضيوف موسيقيون وصحفيون أجانب، بالإضافة إلى شخصيات من عوالم وقطاعات أخرى كالطب والهندسة والأعمال وغيرها … كان هناك أمر يثير انتباهي كلما رافقت أو جالست هذا الفنان، وهو أن الصحافة معه كظله .. تتتبعه، تصوره، تحدثه، في تلك الفترة لم أكن قد بلغت سنتي العشرين ولم يكن اسم جيمي هاندريكس يعني لي شيئا كبيرا، فأنا ترعرعت على تاكناويت، هي عالمي، وما دونها لايشدني كثيرا، لكنني سأعجب بالرجل رغم أني لم أكن من جمهوره أو حفظة أعماله، وسيزداد إعجابي به لما شاهدت سلوكه، فهو يذكرك بسلوك بوجميع وعفويته وبساطته، قد أقول إنك بصدد غيواني من بلد آخر… قيمته، على المستوى الدولي، سأعرفها لما شاهدت جيش المعجبين من كل أقطار العالم والأشخاص الذين يرافقونه أينما حل وارتحل، وكذا صفوف الصحفيين الذين يتوافدون عليه، هنا لا بد أن أقف لأسجل أن الغيوان لو دعمتها الصحافة بالشكل المعمول به في البلدان الأخرى لكانت من أشهر الفرق العالمية …
في بيت ذلك الصديق أخذ جيمي يتحدث للصحافيين الذين يتعاقبون على طرح أسئلة مسترسلة، فسألوه عن عالم كناوة بعدما قدمت معطيات لهم حول هذا اللون الفني، فكان جوابه مثيرا حينما قال إن هذه الموسيقى تعكس ألوان الروح من خلال آلة صنعت من الطبيعة ..وبما أنه كان يمتاز بروح الدعابة سيتوجه إلي بالقول، “لنقم ليلتنا يا طبيب الأشباح !” …وهو اللقب الذي ظل يردده وأصدقاؤه كلما نادوني وذاع بين أصدقائي ومعارفي أيضا .
كنا قد اتفقنا قبلا أن نقيم في بيت صديق هاندريكس، مباشرة بعد أن عرفني عليه، أمسية على شكل حضرة كناوية ومؤثثة بكل الطقوس، حيث تم إحضار”العتروس” الأسود وتم ذبحه وقرعت الطبول فوقه على أننا لا نصل إلى المراحل التي تعرفها الحضرة الحقيقية، كما تم حرق البخور وقام أحد أفراد كناوة بجولة في البيت لـ” تبخير” الأرجاء كما هو معمول به في الطقوس الكناوية، لأفاجأ بهاندريكس يقفز من مكانه ويقوم هو بعملية حمل ” المجمر ” الصغير وتبخير أرجاء المنزل وكذا تبخير الحاضرين، بل أكثر من هذا وذاك لم يتوقف الرجل هاهنا، إذ وجريا على العادة الكناوية، سارع إلى الإناء المملوء بالحليب وحمله وأخذ يرشه في زوايا المنزل، وكأننا بصدد كناوي ” صحيح ” ..
لما دخلنا في طقوس العزف والإيقاع، حسب درجات الليلة الكناوية والتراتبية التي يجب اتباعها، كان جيمي مرة يحمل قيثارته ومرة يسارع إلى حمل القراقب ولكنه لا يقرب السنتير وكأنه يعلم أسرار تاكناويت، إذ يمنع على غير لمعلم الاقتراب من هذه الآلة، وفي الحقيقة لم أكن أنا لمعلم تلك الليلة بل كان كل أصدقاء هاندريكس ” معلمية “، فكل واحد منهم عزف على آلته في هذه الحضرة الفريدة، لكن مع احترام الأنغام المعمول بها في الليلة الكناوية، وهو ما أضفى عليها جمالية من نوع خاص، إذ كانت شبيهة بمهرجان جمع كل أجناس الكرة الأرضية اجتمعوا وتواصلوا عبر الموسيقى عشقا في الحياة وتكريما لكناوة، هذا اللون الفني الذي ظل محتقرا لعقود من الزمن لتأتي موجة “الهيبيزم” عبر العالم وتمنحه المكانة التي يستحق، وهو الأمر أيضا الذي اشتغلت عليه ناس الغيوان لتكون أكبر مساهم في إعادة توهجه. ..
أصبح جيمي هاندريكس يتردد كثيرا على غابة “الديابات” بحثا عنا لمشاركتنا وصلاتنا الموسيقية المعتمدة أساسا على الارتجال والإحساس والحدس، والغريب أن هذا الارتجال كان يولد ألحانا متناسقة رائعة تشد الحاضرين وتجعل الجميع يتماوج ويتجاوب مع أنغامها، لاحظت خلال هذه الجلسات أن هاندريكس لايزال متعلقا بتاكناويت وبأن الليلة التي أحييناها عند صديقه لم تشف غليل دواخله، لذا غامرت ودعوته لحضرة كانت ستقيمها إحدى المقدمات بالمدينة وكنت أنا “لمعلم “، لما أخبرته بالأمر فرح فرحا طفوليا وكأنه حقق إنجازا ما .. هذه المرة لم يحمل قيثارته معه، عرفت أنه يريد أن يعيش الطقوس الكناوية كما يجب أن تكون عليه في أصلها، بداية بفتح الرحبة إلى توالي لملوك والألوان مرورا بالطقوس التي يؤديها الجذابة والقراقبية وما يرافق ذلك من حركات والدخول في الحال وصولا إلى نهاية الحضرة .
عندما فتحنا الرحبة جلس جيمي إلى جانبي وهو ينضح بالحال كما لو أنه ولد في أحضان كناوة وتشبع بعوالمها، بعد ذلك طلب مني لباسا كناويا شأنه شأن المشاركين في الحضرة ولما أعطيناه فرصة اختيار اللباس الذي يريد والذي يتماشى مع الطقوس المعتمدة في الليلة، ما كان منه إلا أن اختار لباس ” ملك بودربالة ” !؟ لا أعلم لماذا اختار هذا اللباس بالذات ؟ فهو لباس بال وبه عدة رقع .. وعندما ارتداه أصبحت أراه بسحنته السمراء، وكأنه واحد من أفراد فرقة كناوة، السعادة بادية على ملامح وجهه، عيناه مركزتان على حركات أصابع يدي وأنا أعزف على الكنبري، يجول برأسه عبر كل ما يجري حوله من طقوس غريبة، لكن الذي شده أكثر هو حركات الجدابات وهن يرقصن بشكل محموم لا أعتقد أنه شاهده من قبل، خصوصا عندما يتم سفرهن اللا محدود نحو الحال ولملوك، فيشرعن في ضرب بطونهن وأيديهن بالسكاكين ومنهن من تأكل الزجاج أو نمرر نيران الشموع تحت ذقنها .. كل هذا جعل هاندريكس يحس بأن كناوة موسيقى روحية محضة، تخاطب وجدان المتعاطي معها وتجعل الجداب ينفصل كلية عن جسده …قرر جيمي، بعد أن أصر علي بشكل كبير، أن نقوم بأعمال فنية معا، وكذلك اتفقنا، لكن الظروف شاءت غير ذلك حيث غادر إلى دار البقاء …
كنا لا نفترق إلا نادرا، فهو كان بمثابة توأم أنغامي، بموته فقد العالم ركيزة أساسية في مجال الأغنية الروحية ..أتذكر أنه خلال جولاتي الفنية عبر العالم كان جمهور غفير يتوافد على مكان الحفل الذي سأكون فيه، فقط ليرى ذلك الكناوي الذي كان يعزف بمعية جيمي هاندريكس بآلة غريبة ومختلفة … من الأشياء التي أثارت جيمي في شخصي، حركاتي وأنا أعزف على السنتير، وبصراحة أحس وكأن نغمتة استحوذت على مشاعري، أحس أنني بحاجة إلى إطراب نفسي قبل إطراب الآخرين، هذا الأمر كان يقع حتى للعربي باطما، أحيانا أخرج وإياه من حفل أعجب الجمهور لكن دون أن نرتوي فنيا وموسيقيا، فنقصد المكان الذي نقيم فيه وأدخل بمعيته في العزف والغناء إلى أن نشبع دواخلنا بما يلزم من أنغام ثم نتوقف…تجدني أتصبب عرقا ورأسي لا يتوقف عن الجذبة وعيناي مغلقتان طيلة الليلة الكناوية، كان بعض الأجانب يعتقدون وهم يرون حركاتي تلك بأنها بمثابة تواصل بيني وبين لملوك والأرواح التي سكنتي وأنا أعزف خلال الليلة، أنا نفسي لا أجد أي تفسير لهذه الحالات التي تنتابني كلما حملت السنتير …
عندما مات جيمي كنت أتلقى التعازي من الكثير من سكان العالم ممن كانوا يأتون للصويرة وعاينوا أو سمعوا بالعلاقة التي كانت تربطني بهذا الفنان البسيط المتواضع، وكأنهم يشعرون بالفراغ الذي تركه في نفسيتي .. بعد موته ورحيل “ليفينغ تياتر” وجدت نفسي مطالبا أكثر بالبحث والتنقيب عن منابع أخرى للموسيقى الروحية، وكانت هذه بداية لمحطة جديدة في حياتي الفنية…