العربي رياض
يغوص بك الأستاذ الباحث حميد تهنية إلى دروب وفضاءات فاس الأثيرة ، لينبش في مسار أعلامها وقاماتها في مجال الفنون الموسيقية وينقشه في مزهرية نفيسة تمتح من عبق التاريخ الأصيل المستشرف للمستقبل ، صاغ تفاصيل ألوانها في سفر قيم جميل بعنوان ” الذاكرة الغنائية لمدينة فاس ” ، موثقا بذلك لبدخ إبداعي شهده المغرب منذ بداية القرن الماضي إلى يومنا هذا ، كان عنوان حضارته وتمدنه الضارب في عمق الزمن ، حين تتصفح الكتاب الموزع على 250 صفحة ، وتأخدك سفينة السرد للاطلاع على ما قدمته الأسماء والأعلام المؤثثة له ، سترفع القبعة لأستاذنا الباحث تهنية على المجهود الكبير الذي قام بها سواء على المستوى الميداني أو على مستوى البحث المعرفي ، إذ ستستوعب بكل بساطة أن هذا العمل هو تمرة سنوات من التشبع بالتحف الفنية التي قدمها الفنانون الذين وضعهم تحت مجهر البحت ، ليعلن للأجيال القادمة عن عظمة الأسلاف وعظمة المدينة جل المدن العتيقة وسط جغرافيا العالم ، وعن رونق ذوق شعب ، لا يقبل إلا المليح جعل من تلك الأعلام تستنهض طاقتها وموهبتها الرفيعة لتبدع أعذب الأنغام وأرفع الشعر والزجل ، وتؤسس لسيمفونيات ظلت وستطل خالدة في الموروث الفني الإنساني
الكاتب قسم صفحات الكتاب إلى ستة أبواب شاملة لمختلف الألوان الموسيقية التي زخرت بها المدينة ، ففي الباب الأول وبطبيعة الحال أفرده الكاتب للطرب الأندلسي ، كون مدينة فاس كانت من أولى الحواضر المغربية التي احتضنت هذا الفن بعد سقوط حواضر الأندلس في يد الإسبان ، وانتقال كبار الموسيقيين والمنشدين إلى مختلف المدن المغربية على رأسها مدينة فاس ، ويذهب بك في لمحة تاريخية كيف تطور هذا الفن في المدينة وكيف رمم أعلام المدينة ماضاع منه بدءا بالفيلسوف أبو بكر ابن باجة المتوفى سنة 1038 بفاس مرورا بأسماء أخرى ، عملت على ابتكار إيقاعات جديدة وأضافوا عليه البراويل العامية كما قاموا في القرن التاسع عشر بصياغة ” النوتات ” الإحدى عشر الواردة في كناش الحايك وإعادة ترتيب أشعارها ، لينتقل بك بعد ذلك إلى التعرف عل جل لمعلمية والأعلام الذين كانت لهم بصمتهم في هذا اللون الفني ، بدءا بمجمد بن عبد السلام البريهي مؤسس حوق البريهي ، مرورا بعمر بن العباس الجعيدي والفقيه محمد لمطيري ومحمد الخصاصي وعمر زويتن وادريس بنجلون ومحمد بن عمر الجعيدي وأحمد الوكيلي وعبد الكريم الرايس وأحمد التازي لبزور ، وصولا إلى محمد التازي الشرتي وامحمد بنمليح وامحمد بوزوبع ومحمد أبريول ومولاي العربي ومحمد بنيس والقائمة طويلة ، حيث يدون حياتهم وأعمالهم وإسهاماتهم بشكل يشدك نظرا لسلاسة السرد وخفته . في الباب الثاني ينقلنا الأستاذ حميد تهنية بين أعلام الملحون في مدينة فاس مقدما ملخصات حول سيرهم وعن الأعمال التي خلدوها ، مدعمة بمقتطفات من أشعارهم ويعود بك إلى تاريخ هذا الموروث الثقافي منذ بواكيره الأولى في العهد الموحدي في القرن السابع الهجري ، وكيف تطور في العهد السعدي قبل أن يصل إلى مرحلة التألق والانتشار في القرن التاسع عشر ، وهو يجرك إلى التعرف على أعلام فاس في باب المحلون من أمثال محمد المدغري والجاج التهامي المدغري وأحمد الغرابلي وادريس بن علي السناني ومحمد بن علي العمراني ومحمد بن سليمان ومحمد النجار والتهامي الهاروشي وأحمد سهوم وغيره ، يقف بك عند شاعر من طينة السلاطين ويتعلق الأمر بالسلطان مولاي حفيظ ، الذي كان ناظما لأشعار الملحون ويضع أمامك مقتطفات من أشعاره ، قبل أن يعرج بك على جزء من حياته الخاصة بمجالس الشعر والأدب
في الباب الثالث يسافر بنا الكاتب إلى عالم الأغنية العصرية والأسماء التي أسهمت في تأسيسها و إشعاعها من أبناء مدينة فاس منهم عبد الله أكومي وعبد القادرالراشدي ومحمد فويتح وفتح الله لمغاري وأحمد الشجعي وأحمد الطيب لعلج وعبدالرفيع الجواهري وعلي الحداني وعبد الرحيم السقاط ومحمد المزكلدي وعبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي واللائحة طويلة
لم ينس الكاتب حظ المدينة من الإسهام في الأغنية المجموعاتية ، ففي الباب الرابع يسرد الفرق التي برزت في فاس منها فرقة هوى هداوي وعمارة فاس وأهل السلوان وعشاق الفن وصلاح الطويل بالإضافة إلى مجموعات وأسماء أخرى
الباب السادس خصصه الكاتب للأغنية الشعبة مدكرا بعدة أعلام منها محمد بركام وزهرة الفاسية وحاييم بوطبول وغيره ، ليصل إلى الباب السادس المخصص للأغنية التراثية الشعبية تاريخها وأعلامها
يكون بذلك حسن تهنية قد وفر للمكتبة الوطنية كنزا توثيقيا ما أحوج الشباب إليه خاصة من يعنى بينهم بالتاريخ والفنون ، إذ قال تهنية في خاتمة الكتاب ” نهدف إلى تقريب الشباب من الأقطاب الموسيقية وماا أنتجوه من درر نفيسة من خلال تجميع وتوثيق المنسي والمتلاشي والمعرض للاندثار ..”