الرئيسيةسياسة

هذه أخطاؤنا التاريخية عباس الجراري : لا يعقل أن تتخلى الحكومة والمؤسسات عن مسؤولياتهم ليتم الزج بالملك في الأزمات

نشرت جريدة الصباح يوم الاثنين حوارا شيقا أجراه الزميل عزيز المجدوب مع الدكتور عباس الجراري المستشار الملكي وأحد أعلام الفكر والثقافة بالمغرب ..ونظرا لأهمية الحوار نعيد نشره في موقعنا تعميما للفائدة…

نذر نفسه للدفاع عن التراث والأدب الشعبي طيلة عقود، لم تشغله المناصب التي تقلدها عن شغفه الخاص الذي جعل منه قضية، لم يشأ أن يعتبرها ترفا ذهنيا، بل يصر على أن لها امتدادا في الوقع وأثرا فيه. إنه الدكتور عباس الجراري أحد أعلام الفكر والثقافة في مغرب ما بعد الاستقلال وإلى حدود اللحظة الراهنة. على امتداد هذه العقود نافح صاحب كتاب “الحرية والأدب” باستماتة، عن ضرورة إيجاد مكان للأدب الشعبي في نسق الثقافة المغربية التي تعامل بعض روادها بنوع من التعالي مع المسألة. في هذا الحوار يسلط الجراري الضوء على جانب من اهتماماته الفكرية، بمناسبة صدور الجزء العاشر من ديوان الملحون الذي أصدرته أكاديمية المملكة تحت إشرافه، كما يتحدث المستشار الملكي عن قضايا عديدة تبدأ من ما هو نظري محض وصولا إلى قضايا راهنة تتعلق بالتحولات السياسية والاجتماعية بالمغرب، بما فيه حراك الحسيمة وأشياء أخرى تجدونها ضمن الحوار التالي.

أجرى الحوار: عزيز المجدوب

ـ ما هي محددات توجهكم نحو دراسة الأدب والتراث الشعبي والحرص على إيجاد مكان له ضمن الدرس الجامعي وكذلك المشهد الثقافي والفكري بشكل عام؟

ـ المنطلق كان العمل على إدخال الأدب المغربي في عمومه إلى الدرس الجامعي، وهذا لم يكن سهلا إذ كانت هناك معارضة كبيرة، على أساس التساؤل هل هناك أدب مغربي؟ يمكنه أن يدرس بالجامعة، فضلا عن أن الناس كانوا مأخوذين بالأدب المشرقي. أتحدث هنا عن فترة الستينات، وحينها كانت الجامعة المغربية شبه فارغة والمنشورات قليلة المعرفة ضعيفة، وأغلب الشباب الذين التحقوا بها كانت ثقافتهم العربية جلها مرتبط بالمشرق. كما أن الحديث عن الأدب المغربي يجر إلى الحديث عن المغرب وتاريخه وتطور مسيرة الفكر والإبداع والفنون فيه وهي مسألة لم تكن سهلة. وفي هذا الإطار بدأ النظر إلى التراث الشعبي كجزء من الأدب. فكما أنه لدينا أدب مدرسي ومعرب أو عالم، فلدينا أدب أبدعه الشعب هو الذي يعبر عن نبوغه وقدراته ومزاجه الخاص وقضاياه ومشاكله، من هنا بدأ التفكير في إدخال التراث إلى الفضاء الجامعي، وهنا كانت الحرب العظمى والرفض التام.

حرب ضروس ضد التراث والأدب الشعبي

ـ من هي الجهات أو الأشخاص، على وجه التحديد، الذين قادوا هذا الرفض؟

ـ يمكن أن أقول إن الموقف المضاد يكاد يكون عاما، فهناك الإدارة التي كانت تسير الجامعة، وآنذاك لم تكن هناك سوى كلية الآداب بالرباط، وأغلب الأساتذة الذين كانوا يدرسون بها الأدب العربي كان ينظرون إلى المغرب من عل، فضلا عن بعض الشباب المبتدئ والذين التحق جلهم بشهادة الإجازة لتقديم دروس بها، وكانوا في الغالب مرتبطين بالأدب المشرقي وليست لديهم فكرة عن الأدب الذي أبدعه المغاربة.

ـ كانت هناك خطوة أولى تتمثل في “التحايل” على إدخال الأدب الشعبي ضمن الأدب المغربي، مثلا عندما يتم البحث عن موقف المغاربة من قضية معينة عبر الإبداع الشعري أو القصصي يتم إدخال نموذج من ما قاله شاعر شعبي لتكميل صورة الموقف، وبدأ الاهتمام من قبل الشباب المغاربة الذين التفتوا بإعجاب لما أنتج من أدب شعبي في هذا السياق، ومنهم من اشتغل على الأمازيغية، كما هو الشأن بالنسبة للباحث عمر أمرير، أو الملحون أو الأدب الشعبي عموما.

هذا على الصعيد الجامعي، أما على الصعيد العام فقد كان هناك ترويج لأفكار تدعو إلى نبذ التراث، سيما من قبل بعض المفكرين الذين كانوا يومئذ في الساحة ويعتبرون أنفسهم في الطليعة ولهم مواقف فكرية حول التراث والدين، ويزدرون الأدب الشعبي ويعتبرونه شيئا تافها.

وتدريجيا بدأنا نكتشف خاصة مع اندفاع بعض الشباب إلى البحث في الأدب المغربي عموما، والأدب الشعبي خصوصا، وكأننا للتو نكتشف ذاتنا وشخصيتنا، رغم أنه سبق لبعض الرواد أن اقتحموا هذه المنطقة في الوقت الذي لم تكن فيه جامعات مغربية بالمفهوم العصري للكلمة، مثل الراحل عبد الله كنون وعبد العزيز بن ادريس وغيرهما.

ـ ألا ترون أن المقارنة بين الأدبين المغربي والمشرقي في تلك الفترة لم تكن عادلة بحكم أن كل أدب مختلف عن الآخر؟

ـ لا نستبعد ما قدمه المشارقة في الأدب، لكن أيضا المغاربة ساهموا في هذا التراث وفي النهضة الشعرية والأدبية، لا مجال لأن نقصر الإبداع على المشرق فقط، وإخواننا المشارقة كانوا يجهلون إنتاجنا الأدبي جهلا تاما، وهذا تقصير منهم ومنا كذلك لأننا لم نكن نعرف ما قدم المغاربة في هذا السياق إلى أن اقتحم البحث الجامعي، رغم الصعاب التي اعترضته، هذه المنطقة المجهولة وبدأت تتضح ملامحها شيئا فشيئا.

الملحون يعكس العبقرية المغربية

ـ من خلال التراكم البحثي الجامعي الذي تحقق عبر سنوات ما هي الملامح العامة للأدب المغربي التي تشكلت لديكم؟

ـ أول نتيجة أو ملاحظة وهي أن الثقافة المغربية والأدب والإبداع لم يكن مقصورا على حاضرة من الحواضر، بل أيضا موجود في البوادي والقرى، نبغ شعراء وأدباء مغاربة في أوساط لم يكن متوقعا أن تفرز أدبا أو إبداعا، ورغم كل الأبحاث التي أنجزت في هذا الإطار فإننا لا نعرف من الأدب المغربي القديم إلا النزر اليسير فأينما ذهبت تجد جزءا من التاريخ.

ـ لديك اهتمام خاص بفن الملحون باعتباره فنا مغربيا خالصا. في نظركم لماذا برع المغاربة في شعر الملحون أكثر من الفصيح؟

ـ الشعر الفصيح له تقاليده وبحوره وأعرافه الثقيلة، والشاعر الشعبي في الملحون حين بدأ في نظم بعض المقطوعات قبل خمسة قرون، كانت في بدايتها على غرار الشعر الفصيح، أي بالمحافظة على الصدر والعجز، وهو ما يسمى لدى أهل الملحون ب”الفراش” و”لغطا”، ثم بدأ المبدعون المغاربة شيئا فشيئا يطورون أسلوبهم، إذ توسعت الأغراض الشعرية بشكل مدهش وكذلك الأوزان، ففي البداية كانت مقطوعات الملحون مقتصرة على المديح النبوي أو ما يسمى ب”التصلية” وكانت تتلى في المساجد والزوايا فقط، قبل أن يظهر شعراء خرجوا على هذا التقليد، منهم من انتقل إلى وصف الربيع كما هو الشأن بالنسبة إلى الشاعر حماد الحمري صاحب قصيدة “الربيعية”، ليأتي بعده شاعر آخر هو “بوعمر” فنظم قصيدة غزلية فقامت الدنيا ولم تقعد، بل وصف بالزنديق والفاسق، ليصير بعد ذلك غرض الغزل هو أهم موضوع في الملحون، الذي أبرز الطاقة الإبداعية للمغاربة بل وأتاح هامشا للحرية من حيث الشكل والموضوع لم يكن متاحا في الشعر الفصيح، فالأوزان التي سار عليها شعراء لملحون تجاوزت بكثير ما كان في شعر المعرب خاصا في ما يتعلق ب”التبييت” لتوسعوا في أعداد أشطر البيت من اثنين إلى خمسة أشطار أو فما فوق، مما جعل هذا الفن يشكل واجهة متطورة لفهم الإبداع المغربي.

ـ وكيف كان يمكن الوقوف على هذه الواجهة المتطورة ونصوص الملحون كانت مهملة وكانت معرضة للاندثار؟

ـ هذا هو ما انتبهنا إلينا، فالحديث عن العبقرية المغربية في شعر الملحون يقتضي أولا الانطلاق من النصوص الموجودة، وهي المسألة التي جعلتنا نقف على أن هذا التراث كان ضائعا أو شبه ضائع، فكانت الخطوة هي السعي إلى جمعه من خلال مشروع موسوعة الملحون التي أصدرتها أكاديمية المملكة، وهي العملية التي لم تكن سهلة إذ تطلبت وقتا طويلا لتجميع رصيد هائل من الوثائق تم الاشتغال عليها داخل لجنة مختصة تضم أساتذة وباحثين ومهتمين متمرسين، لتفرز لنا موسوعة الملحون التي صدر جزؤها العاشر أخيرا.

هذه أخطاؤنا التاريخية

ـ في سياق الاهتمام بالأدب الشعبي، ألا ترون أن إقصاء بعض مكونات الثقافة الشعبية المغربية كان له أثر سلبي من الناحية السياسية والاجتماعية بل وصار يهدد استقرار المملكة؟

ـ لا يمكن أن نتحدث عن إقصاء بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما كان هناك عدم اقتناع بجدوى دراسة الأدب الشعبي كما أشرت إلى ذلك، بمعنى إقصاء شامل لجزء مهم من تراث المغرب يمثل كافة مكوناته وليس مكونا بعينه.

ـ لكن لصالح مكون أعلى من شأن حضور الأدب المعرب على حساب الأدب الأمازيغي مثلا؟

ـ المسألة الأمازيغية لم تكن مطروحة في يوم من الأيام بالشكل الذي أصبحت مطروحة به الآن، بل إنه تاريخيا في الوسط الأمازيغي، بكافة أبعاده، نجد هناك من خدم التراث العربي الإسلامي والشعري بهذه المناطق، فمثلا سوس أغلبهم كانوا شعراء كبارا بالفصحى، وقس على ذلك حتى في المناطق الأخرى، بل إن الحساسية بين ما هو عربي وأمازيغي لم تكن موجودة، بدليل أنه لما قامت قضية الظهير البربري سنة 1930 انتفض المغاربة في وجهها ولم يقبلوا أي تفريق ما بين المكونات المغربية.

ـ ألم تكن هناك أخطاء تاريخية في تدبير التعدد الإثني بالمغرب؟

ـ بطبيعة الحال كانت هناك أخطاء، فما نعيشه الآن هو نتيجة لهذه الأخطاء، وأعتقد لو أنه في مرحلة الستينات أو السبعينات، عندما كنا نصارع من أجل ترسيخ دراسة الأدب الشعبي، لو أخذت بعين الاعتبار هاته المسألة التي وقف الكثيرون ضدها لما تفاقم لدينا الإحساس بالإقصاء لأبعاد ومكونات مهمة من الشخصية المغربية.

النقاش حول الثقافة ليس ترفا ذهنيا

ـ هذا يجرنا إلى الحديث إلى حراك الريف بما يختزنه من إحساس بالتهميش والإقصاء؟

ـ هذا ما أريد أن أصل إليه، فالنقاش حول الاهتمام بالتراث والثقافة الشعبية، ليس ضربا من الترف الذهني. للأسف الذين كان بيدهم الأمر خلال تلك المرحلة خاصة خلال العقود الأولى للاستقلال، كانت تطغى عليهم النزعة القومية والعروبية المتعالمة، وكان أغلبهم ضد كل ما هو شعبي، بما فيه ما هو أمازيغي، فضلا عن الفنون التراثية مثل العيطة والملحون ومختلف الأشكال التعبيرية بمختلف اللهجات.

ـ ألم يكن ممكنا إدماج هذه المباحث في التعليم الأساسي بشكل تدريجي؟

ـ كان مستحيلا بطبيعة الحال، فأنا أتحدث عن الصعوبات التي واجهناها في سبيل أن تدخل هذه المباحث إلى الدرس الجامعي، فكيف الأمر أن تقنعهم بضرورة إدماجها في التعليم الأساسي، كانوا ينظرون إلى المسألة باعتبارها مجرد ترف ذهني وبنوع من الازدراء، ولو أخذ الأمر بالجدية اللازمة لما تكرس هذا الإحساس بالإقصاء والتهميش.

سوء استغلال للرصيد النضالي للريف

ـ في علاقة بالإقصاء والتهميش. في تقديركم ما هي أسباب حراك الريف؟

ـ من المؤكد أن هناك أسباب موضوعية وجيهة لهذا الحراك، فمنطقة الريف بحكم تاريخها النضالي منذ زمن الخطابي، تشكل هناك رصيد من الاعتزاز بأن لهذه المنطقة دور في النضال من أجل الوطن، ونتيجة لهذا تدخل خصوم المغرب لاستغلال هذه الواجهة النضالية المشرفة من أجل توجيه بؤرة الاحتقان نحو زرع مجموعة من الأفكار الهدامة التي تسير بالبلاد نحو الهاوية. هناك من يريد تشويه التاريخ النضالي للمنطقة ويريدها أن تعاقَب عليه، فعلا أهل الريف عوقبوا سابقا بشيء من الإهمال ظل يتضخم ويتفاقم حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

ـ وماذا عن فشل المشاريع التنموية التي أرادت بها الدولة مصالحة المنطقة قبل سنوات؟

ـ هناك تنمية مست مجموعة من المناطق بالمغرب بما فيها الريف، لكن هناك مناطق أخرى ظلت مهمشة لم يصلها شيء من التنمية.

ـ هل يمكن أن نتحدث هنا عن أخطاء للدولة؟

ـ من المؤكد أن هناك أخطاء، فأنا أتساءل أين هي الحكومة من كل هذا وأين هي الأحزاب والمؤسسات التي تصرف عليها الملايير ، الجميع يتفرج على ما يجري أو يذكون نيران الفتنة أكثر مما هي متقدة، لقد وصلنا إلى طريق يكاد يكون مسدودا بعد أن فشلت المؤسسات المنوط بها لحل المشكل في تدبير الأزمة والوصول بها إلى بر الأمان، الكل ينتظر تدخل جلالة الملك، وهذا ليس هو الحل منذ البداية، لا يعقل أن تتخلى الحكومة والمؤسسات عن مسؤولياتها ليتم الزج بجلالة الملك في قضايا مثل هاته، ليس سهلا أن يغامر جلالته في ملف شائك مثل هذا لا يمكن توقع ردود الأفعال فيه، إن تصرف الأحزاب والحكومة والمؤسسات بإسناد كل شيء إلى جلالة الملك، بحق أو باطل، يضعه في موقف حرج، على الجميع أن يتحمل مسؤوليته، لا أن يلقي كل طرف المسؤولية على الآخر ، ونتمنى أن تتغلب الحكمة في الأخير لأن المغرب يبدو وكأنه فقد حكماءه بعد أن ركن مثقفوه إلى الصمت أو انسحبوا بصمت، فيما اختار البعض الآخر التفرج بسخرية واستهزاء مما يجري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى