- أحمد طنيش
مطلب الفعل المهرجاني:
في غشت 2022، عاش الحي المحمدي فعاليات الدورة الأولى للمهرجان الوطني لظاهرة المجموعات بالحي المحمدي، وفي غشت 2023، من 21 إلى 26 غشت 2023، عاش الحي المحمدي الدورة الثانية للمهرجان الوطني لظاهرة المجموعات للحي المحمدي، المنظم من طرف مقاطعة الحي المحمدي التي يسير شأنها أبناء الحي المحمدي بغيرتهم وتجربتهم الجمعوية والاجتماعية والثقافية والفنية، صحبة فعاليات المجتمع المدني المعني بالمشاركة الفاعلة والمساهمة، لذا ناضلت وتناضل هذه المكونات بهذا المهرجان للاستجابة للذاكرة والتاريخ والمتن والحوار العام والخاص والجدل الحاصل حول ميلاد الظاهرة وأسبابها ومنجزها وأعلامها على المستوى المحلي والوطني وغيره من خلال أسئلة إشكالية ومحورية: هل مازال مصطلح الظاهرة موافق للتجربة؟ ألا يمكن أن ننعت التجربة بتوصيف آخر؟ ما هو الموطن الحقيقي لها؟ وكيف نشأت، وفي أي ظروف؟ ناهيك عن النبش والحفر عن المؤسسين الفعليين، والداعمين، وصولا إلى جمهور الظاهرة التي تحولت وتطورت بقوة وجودها وفنها وضرورتها التفريغية حتى أمست حركة ونمطا غنائيا أتبث ذاته وخلق ديناميكيته التي واكبت حركية عالمية ولدت في أواخر الستينيات وبرزت في السبعينيات وواكبت الثمانينيات وجزء من التسعينيات، وخطت عقدها الثالث للقرن الماضي ومازالت حية وحيوية وحاضرة بعقدين آخرين مضافين إلى القرن الألفيني الحالي الذي انخرط في بباكورة العقد الثالث الألفيني، مما يؤكد أننا نتكلم الآن والهنا عن حياة فنية ومختبر غنائي عمره أكثر من نصف قرن أي أكثر من خمسة عقود كاملة وقد دشن عده للنصف الثاني، وبذلك يحتفل بيوبيله الذهبي بجدارة واستحقاق وتاريخ ومسار وسيرة أنماط، هذا الاحتفال الذي يرصده المهرجان ليؤرخ للحي المحمدي من مدخل الفن والثقافة عموما والنمط الغيواني على وجه الخصوص، مع ناس الغيوان، وتكدة، وجيل جيلالة، ولمشاهب ومسناوة والسهام والأجيال المستمرة على النمط، وقد أكدت التجربة المهرجانية في دورتها الأولى والثانية، وكأنها استطلاع حي للرأي، وبذلك أبنات أرقام التتبع ونوعيته واحتفاليته أن النمط الغيواني مطلب كل الأجيال بالحي المحمدي، والدليل الجذبة الصوفية التي مارسها الجميع تطهيرا وتفريغا، وبذلك أجاب المهرجان عن سؤال مركزي كونه غاية تواصلية وفكرية وفنية واحتفالية تم تنموية وتأريخية، وقد جاء لجيب عن دائقة ومطلب تنشيط الحي المحمدي بتراثه تم للاحتفاء بهذا التراث وتكريمه.
تتبع المهرجان في دروته الثانية وبالفضاء المفتوح “بشار الخير” قرب مكان درب مولاي الشريف المعتقل القديم وكأنه مصالحة مع المكان، وجذبة في محيطه، تقول لا تحسبن رقصي بينكم طربا، فالطير رقس مدبوحا من الألم، وعبر السهرات الأربع للمهرجان تابعها ما يقارب ويفوق 12 ألف متفرجا بشكل حية وتابعتها أرقام أخرى كثير عبر البث عن بعد عن طريق وسائط العالم الأزرق، وتتبع الندوتين الفكريتين للمهرجان ما يقارب 200 متتبع بشكل حضوري وما يقارب 4 آلاف عبر البث الفيسبوكي المباشر، وعرفت التغطيات الإعلامية الواسعة لكل فقرات المهرجان عبر وسائط الإعلام الأربع السمعي والسمعي البصري والمكتوب والافتراضي داخل الوطن وخارجه، تتبعا كبيرا وواسعا وصل إلى المليونية..
الحي المحمدي عاصمة غيوانية:
للحي المحمدي تاريخ عمران وتعمير، يؤكد ذلك من خلال جينالوجيته التي عمرته وأتثبت أنه حي ظاهرة، جمع مكوناته بشكل انتقائي طبيعي وكأنها عينات مختارة من الجهات الأربع للوطن، وبذلك أصبح الحي المحمدي وطنا مصغرا، إذ جاءته ساكنة بفعل الهجرة والعمل وأسباب أخرى من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وسكنت رقعة جغرافية لها تاريخ الكاريان المتنقل من السكة وروش نوار، وتاريخ البلوكات العمالية والعمارات السكنية التي صممها بروست سنة 1922، وفيما بعد كورشار، من تم تأسس تراث عمراني له تاريخه وأجياله ومعالمه، هذه الساكنة انصهرت في مكان محدد الجهات وتلاقحت الثقافات وبفعل المثاقفة كان ميلاد الحي كظاهرة عمرانية ومن بوتقته خرجت ظواهر أخرى اجتماعية وغيرها وعلى رأسها الظاهرة الغيوانية التي مهدت لها الأرضية من خلال لقاء وحوار الثقافات والعادات والتقاليد والأهازيج والأنماط والإيقاعات، والمحكيات وغيرها والتي انصهرت وتأثرت بالأشكال الفرجوية الآتية من التاريخ والعابرة له مع “الحلقة” كأقدم لقاء يجتمع حوله الناس للبسط والترفيه والاستفادة وحرية القول والغناء الذي ينتمي للتروبادور والأشكال الفنية المسافرة في الثقافات والعادات والتقاليد الأممية، من تم يعتبر الحي المحمدي بهذه المقومات العاصمة الغيوانية بامتياز، والدليل أن المجموعات الرائدة خرجت من رحمه وأصبحت نماطا وحركة وظاهرة وطنية وعربية تم دولية..
ميلاد أول دار للشباب بالمغرب، في الخمسينيات من القرن مهد لميلاد الظاهرة:
حينما اجتمعت ثقافات وفنون البوادي وجهات المغرب الأربع في رقعة موحدة لها تاريخها العمالي والفلاحي والنضالي والرياضي تم الاجتماعي والسياسي والاعتباري كذلك، تأهلت بفضل الحوار الذي حصل بين إيقاعاتها وهيتها وكلماتها وأنغامها، وبذلك أصبحت فنا حضريا أو فنا تلاقحيا يحافظ على هويته في إطار الطرح الحضري الإبداعي غير مسبوق من تم استحق في البدء نعثه بالظاهرة لبزوغه المفاجئ للجميع وحتى لمريديه وصناعه، لكن قوة حضوره وجدارة مختبره واجتهاد المحيط الفني العام أهله بأن يصبح نمطا غنائيا فنيا، سيما وقد اجتمع شباب المرحلة الستينية والسبعينية في دار الشباب الحي المحمدي وتلمسوا طريقهم الأول في مسار المسرح ومارسوا المسرح بشكله الشعبي والغربي والتجريبي في نفس الوقت بقوة الطرح والإبداع، وكان من اللازم أن يحضر التشخيص والغناء الذي يقوده الراوي أو الحكي المشخص غنائيا، من تم كان التجاوب الكبير بين رواد الحركة مع مسرح الطيب الصديقي الذي تتلمذ على يد أستاذه جون فيلار مؤسس المسرح الشعبي الفرنسي، من تم أسس الطيب الصديقي المسرح الشعبي المغربي حينما رجع للتراث في مسرحياته الخالدة سيدي عبد الرحمان المجدوب، والحراز وغيرها، وهذا ما يبرر تعامله المبكر والمرتبط بالحفريات التاريخية الباحثة عن الشكل المسرحي المغربي الخالص الذي يشبهنا، ومن تم كان التعامل مع التجارب التي قادت الظاهرة وطورته إلى نمط غنائي خالص غير مسبوق، وضمنهم: مولاي الطاهر الأصبهاني، وعمر السيد والعربي باطما وبوجميع أحكور، وأحمد دخوش الروداني، ومحمد مفتاح وحميد الزوغي وغيرهم، ومن خضم هذا الجيل انبثقت ناس الغيوان، وجيل جيلالة، وتكدة، ولمشاهب، وفيها بعد السهام ومسناوة، وهلم مجموعات غنائية منها المستمرة ومن التي تراجعت أو اضمحلت ومنها التي تواصل سيرها مستندة على التاريخ، ومنها المجموعات التي ترث هذا التراث وتتوارثه، لذا نجد تصريحات العربي الباطما في البداية وهو ينحت الاسم الممكن لهذه التجربة؛ إذ انطلق الاسم في البدء وبالضبط في سنة 1970 بـ”الدراويش الجدد”، كونه هذه المجموعة تماثل المجاذيب والبوهالا والنظاما، وذلك قبل أن يستمد الاسم من أهل لفهامة، “ناس الغيوان”، ويعتبر العربي باطما المجموعة “نظاما” أي الذين يقولون الشعر ويحبكون الجزل مغناة وملحنا ومؤداه في نفس الوقت وهو تميز خاص بالمجموعات الغيوانية التي انطلقت بظاهرتها المتفردة المستمرة والمتحولة بقوة الطرح إلى أن تأهلت ووسمت النمط الغنائي المختلف والنوعي.
يقول الطيب الصديقي عن أفراد المجموعات الغنائية التي تشكلت منها الظاهرة، إنهم ليسوا مغنون بالمفهوم الكلاسيكي والعام، ولكنهم ممثلون يغنون وشبههم بفرق “التروبادور” الذين يتنقلون من حي إلى حي ومن فضاء إلى آخر وهم يغنون أشياء تهم الناس وتشخص قضياهم وحكاياتهم..
أهل الحال يا أهل الحال إمتى يصفى الحال؟!:
في محيط جغرافي وفي وسط مسار ينزل بك إلى درب مولاي الشريف من جهة ويصعد بك إلى الكدية ودورة مذاكرة من جهة أخرى، أو يأخذك إلى دوار سي أحمد من جانب وإلى الكارينات المأسوف عنها من جانب آخر برحبته وباقي فاضاءاته إلى السكليرة المرحومة وحاليا دار لمان وفضاء لحلاقي أو السوق الفوقاني الغائب، وفي عاصمة الحي المحمدي بين سينما سعادة الواقفة في وجه الزمن والمتوقفة صحبة ظلمتها وظلامها بدون بث ولا فرجة كما سينما شيريف، وكنه تضامن احتجاجي لغياب الجيل المؤسس والمدشن، ودار الشباب المدرسة الأولى لجيل الغيوان ورواد القلم والتي تصارع الزمن وتحافظ على استمرارية نضالية لشعلة الحي المحمدي الثقافية والفنية وجمعية التربية والتكوين التي تخوض نضال المجال التربوي وجمعيات أخرى، ومستشفى السعادة الباحث عن الرجع التاريخي ومقهى السعادة المنتظرة وفضاء أبا صالح دار الغيوان الحرة، وتيران الحفرة الذي خرجت من فضائه الطاس (الاتحاد البيضاوي) الفضاء الذي ينتظر بعته الجديد بأدوار متجددة، سيما وهو شاهد الفضاء تاريخا ومكانا أعرق الفرق الكروية البيضاوية المغربية التي لها تاريخ كروي كبير وأسماء مؤسسة وأيقونات كروية رائدة مرتبط بشكل جدلي مع الحي المحمدي، ومدرسة عمر بن الخطاب الذاكرة والشاهد الزمني، في هذا المحيط الموشوم بالعاصمة كان اللقاء بين بوجميع وعلال يعلي والعربي باطما وعمر السيد، وتزامنا معهم لقاء أحمد دخوش وعمر دخوش وجيله، وفي زمن آخر محمد باطما والسوسدي وجيلهم، تم مشفق عبد المجيد وأخوه خالد وحنين إذ كان اللقاء بإعدادية المستقبل من تم كانوا المستقبل صحبة الجيل المؤسس من فنانين وفعاليات فكرية وسياسية وثقافية وغيرها، هذا الجيل الذي واكب التجربة من خلال الصداقة وكان الداعم المعنوي الأول والجمهور الأول والمؤمن الأول بالتجربة ورهانها الذي انفتح محليا تم وصل إلى وسط المدينة بين جدران المسرح البلدي، وخرج إلى الناس في فضاءات بيضاوية مختلفة تم انفتح وطنيا تم عربيا ودوليا، وكان الأثر مع الفيلم السينمائي “الحال” سنة 1981 مع المخرج المغربي أحمد المعنوني، وكان البث التلفزيوني الأول المشروط سنة 1986، وكان الإشعاع عبر المعمور، وصولا إلى الشهادة التاريخية للمخرج الأمريكي العالمي مارتن سكورسيزي، الذي وسم المجموعة بأنها تمرة جيل الاستقلال المغربي الشبيه بفرقة “التروبادور” والذين عادوا إلى تراثهم وتاريخهم وكان ميلادهم صوتا للمغرب الحر المنفتح على تجارب العالم.
الشجرة الباطماوية، رشيد باطما الخيط الناظم للحفاظ على الهوية الغيوانية:
في تلك العاصمة الجغرافية وفي مواجهة سينما السعادة هناك درب يضم منزل الباطماويين، العربي، محمد، عبد الرحيم، حسن، حميد، تم رشيد، كان بيت العربي باطما المختبر الأول الذي سكنته الأنغام وكان الاسهام حتى من أمي حادة ومحكيها واسهام الشاوية بالصوت والنغمة الباطماوية للعربي ودعدوع ومرجعية النمط والنغمة الصحراوية مع بوجميع والصفة الصحرواية البيضاوية مع علال، ونبرة الأمازيغ وتراثهم وصيحاتهم مع عمر السيد، وفيما بعد كان الانفتاح على نغمات الوطن من خلال مراكش وتراث مسكونها الشعبي الكبير مع مولاي عبد العزيز الطاهري، وعبد الرحمان قيروس معروف بباكو، الصوت الكناوي، ينطبق هذا التمازج على جيمع المجموعات الغيوانية المؤسسة.
من بيت آل باطما المختبر الفني، خرجت الغيوان إلى الناس مع العربي باطما، محمد باطما وحسن باطما وحميد باطما ورشيد باطما؛ إذ خاض محمد باطما تجربة المجموعات مع تكدة ثم كان من المؤسسين لنهضة غيوانية جديدة ومتجددة لحنا وأداء وكلمات خالدة مع المجموعة الخالدة لمشاهب، وكتب لمسناوة، كما كون محمد باطما مع ابن الدرب محمد السوسدي نهضة غنائية جيلية غيوانية مختلفة كان لها صداها المستمر بدوره في الزمان والمكان صحبة سعيدة القادمة من مراكش والتي أصبحت زوجة محمد باطما وأم لسلالة فنية أخرى من الشجرة الباطماوية خنساء وطارق باطما إلى جانب الرفقة الفنية لمشاهبية مايسترو المجموعة الشريف الأمراني تم حمادي ومبارك الشادلي، والمؤسس محمد بختي إلى جانب سعيدة والأخوين باهري..
الشجرة الباطماوية متمرة ومستمرة في مد جدورها، تضم حسن باطما الذي له تجربة فنية خاصة، مع المجموعة التاريخية “لرفاك” سنة 1976 أي في أوج الميلاد الغيواني، وهو مؤسس مجموعة أخرى خالدة مجموعة “لوشام” التي تأسست في بداية الثمانينات ومجموعة “لصياح” وهذا التجارب الأخيرة شارك فيها كل من حميد باطما ورشيد باطما، كما أسس حميد ورشيد باطما فيما بعد مع أبناء الحي المحمدي مجموعة خالدة بدورها ولها نمطها واستمراريته مجموعة مسناوة، وتعود التسمية مسناوة انتسابا إلى أولاد مسناوة المعقل الأصلي لأسرة باطمة المنتمية لدوار أولاد مسناوي، هذه المنطقة كان يقطن بها أناس كبار في السن يمتهنون عبيدات الرمى، ويقال أن العربي باطما هو من أطلق عليهم هذا الاسم، وللشجرة الباطماوية أغصان وارفة نذكر منها فيلسوف يمتاز ببلاغة الصمت وهو مبدع غيواني بشكل آخر كلمة وأبداعا وزجلا وفلسفة حياة ونمطها، إنه الأستاذ عبد الرحيم باطما.
عبر هذا البسط للشجرة الباطماوية، نجد الحضور الفاعل والمحرك والمحافظ على النمط وراعيه لحد اللحظة، إنه رشيد باطما الذي أصبح مكونا من مكونات ناس الغيوان مكلف بمهمة العربي باطما في الإيقاع وسير المجموعة وإلى جانبه حميد باطما، ودائما مع دينامو المجموعة وربانها عمر السيد، كما نجد رشيد باطما حاضر في فكر واستراتيجية مجموعة مسناوة وكأنه الجناح الإيقاعي للنمط الغيواني بعمقه المرتبط بتراب الشاوية..
أنا رني امشيت والهول الداني والديا واحبابي مسخاو بيا بحر الغيوان ما ادخلتو بلعاني:
نسأل الله الرحمة لمن غادر الدنيا من الجيل الغيواني المؤسس، ونقدم التحية للجيل الغيواني الحالي وتحية لرشيد باطما، ولصوفيا باطمة القادمة من جبة الأب رشيد باطما لبعث التراث الغيواني، ناس الغيوان تحديدا، وتحية لعمر السيد، ولأحمد دخوش الروداني، ولمولاي عبد العزيز الطاهري، وعبد الكريم القسبجي، ومحمد حمادي، والمؤسسين المستمرين في النمط الغيواني المسناوي والسهامي وتكدة وغيرها
إنه الرثاء والوصية لمسار الأغنية الغيوانية بكل أشكالها وألوانها وأنماطها، والتي أكد التواصل معها خلال الدورة الثانية للمهرجان الوطني لظاهرة المجموعات بالحي المحمدي، أنها مازالت مطلبا للجدبة والحوار والتواصل، مع الذات والآخر ومع باقي الأنماط بحثا لملامسة ظاهرة الجيل الحالي، وهو سؤال مفتوح أمام الدورة الثالثة من المهرجان لتقترب من أسئلة أخرى وحفر آخر ومقترحات أخرى..