مغربي ينتشل قيثارة الغناء العربي من فقرها ويمنحها نصف مليار
جلال كندالي
السيرة الذاتية للفنانة ليلى مراد ،تكشف أن هذه الفنانة القديرة المتعددة المواهب ، تعود أصولها إلى أسرة يهودية مغربية، حيث كانت تقطن عائلتها بمدينة مكناس، قبل أن يسافر والدها إلى الاسكندرية، ومن ثمة ينتقل إلى القاهرة ،ورغم كل ماعانته في المرحلة الأخيرة من حياتها ،لم تستطع كل الإغراءات استقطابها، من أجل أن تلحتق ب “دولة إسرائيل”
في أرض الكنانة لمع نجمها في سماء التمثيل والطرب، وهي طفلة صغيرة، سمع صوتها مطرب الأجيال محمد عبد الوهاب، الذي كان يتردد على بيت والدها الملحن زكي مراد، وهي تردد أغنية “يامابنيت قصر الأماني “وأغنية “ياما أرق النسيم لما يداعب خيالي “،هذا الصوت الآسر ،دفع الموسيقار محمد عبدالوهاب لكي يقنعها بالغناء في الحفلات العامة، وهو ماتأتى لها على مسرح رمسيس، حيث أدت أغنية “آه من الغرام والحب “،وقد لفتت بصوتها الساحر آنذاك عمالقة الفن، قبل أن تسمعها هذه المرة كوكب الشرق أم كلثوم بمناسبة افتتاح محطة الإذاعة الرسمية
عن هذه المحطة المبكرة من حياتها ،تقول ليلى مراد “فوجئت بوالدي يقتحم الأستوديو على غير عادته، ليهمس في أذني، ،غني بثقة وأبدعي لأن أم كلثوم موجودة هنا وتسمعك ،وجاءت خصيصا لتسمع موهبتك التي تكلم عنها الجميع”،ساعتها تقول ليلى مراد “اضطربت… وخاصة كان من المفروض أن أغني في تلك الوصلة لحن الشيخ علي محمود الشهير لقصيدة أبو فراس الحمداني «أراك عصي الدمع» وهي إحدى روائع أم كلثوم، وخفت في وجودها أن تظلمني إمكاناتي الصوتية، فارتجفت، وكانت عيني على الفاصل الزجاجي، حيث وقفت أم كلثوم وإلى جوارها القصبجي والشيخ محمد رفعت، وكان والدي من خلفهم يرفع يده لي مشجعا، وبدأت أغني وأحسست أنني أقدم أوراق اعتمادي كمطربة لكوكب الشرق، ولم أرفع عيني عنها طوال غنائي ،وكانت ضربات قلبي كمروحة مرتعشة الصدر ،كلما بدرت منها بادرة استحسان بهزة رأس أو إشارة يد، وانتهيت من الغناء وفوجئت بالتصفيق، وعندما ذهبت إليهم خارج الاستوديو لتحيتهم، بادرني الشيخ محمد رفعت قائلا،” بارك الله فيك ولك يا بنيتي فكرتيني بالمغنين الكبار بتوع زمان، إن شاء الله ستكونين مطربة عظيمة، أما أم كلثوم فقالت، برافو يا ليلى حاجة هايلة وحافظي على ما وهبك الله”
لن نتحدث هنا عن موهبة ليلى مراد في التمثيل أو عن ريبيرتوارها الفني الخالد، فكما تقول الشاعرة الخنساء وهي ترثي أخاها صخر ،”هي علم فوق رأسه نار “،هناك طبعا محطات متعددة طبعت حياتها المليئة بالأحداث والمواقف ،ولم تخرج ليلى مراد عن هذه القاعدة، مثلها مثل العديد من الفنانين العمالقة، الذين كانت نهايتهم مأساوية، وتستحق أن تتحول إلى أفلام أو مسلسلات درامية
رغم ما عاشته من غنى النفس والثروة وما اكتنزته من مجوهرات وغيرها ،كل ذلك لم يحصنها من حياة الفقر الحاد والمرض المزمن ، هذه هي الحياة الصعبة التي جربتها ليلى مراد، بعدما تخلى عنها الجميع .وقد وصلت أخبارها بقاع العالم العربي ،هنا يحكي لنا مصدر موثوق ،أن الحالة الاجتماعية التي أصبحت تعيشها الفنانة ليلى مراد، جعلت أحد المغاربة الذي كان معجبا بصوتها، أن يتأثر لحالها ،ورغم أن هذا المغربي ابن الشاوية وابن عاصمتها مدينة سطات، فقيه ورع وزعيم إحدى الزوايا ،إلا أنه كان مغرما بالطرب الأصيل وبالكلمة الشاعرية الشفيفة،يضيف مصدرنا الذي فضل عدم ذكر اسمه، لكونه لم يستأذن هذا الرجل الورع للبوح بهذا السر ، فما أن علم بالأمر حتى سافر إلى القاهرة حيث ليلى مراد، وقد أذهله مارأت عيناه من وضع اجتماعي أقل ما يقال عنه إنه مأساوي، إذ كانت الفنانة ليلى مراد تعاني من المرض إلى جانب الفقر وتراكم الديون عليها، دون أن تمتد يد أحدهم ليخرج الفنانة ليلى مراد من وضعها المأساوي، ولم يشفع لها ما قدمته من فن رفيع للعالم العربي ، فلم تبق الأضواء مسلطة عليها ،وكأنها لم تكن شيئا يذكر، فأصبحت لوحدها تجابه مصيرها، هنا تدخل هذا الشيخ واتصل هاتفيا بأحد الأمراء الخليجيين الذي كان صديقا حميما له، وكان يزوره في مسقط رأسه بمدينة سطات ،إذ كان الأمير الخليجي هو الآخر معجب بصوت وأعمال ليلى مراد ، وبعد أن حكى له قصتها وما أصبحت عليه من بؤس وفقر ومرض ، كما أخبره أنه جاء إلى القاهرة خصيصا ليتأكد من الأخبار المتناقلة حول ما آلت إليه الأمور معها ،و طالب الشيخ الفقيه الورع ،من صديقه الأمير، أن ينتشل الفنانة ليلى مراد من هذا الواقع المأساوي، وفعلا لم يتردد الأمير الخليجي في الاستجابة لذلك، ومنحها مبلغا ضخما يعادل نصف مليار سنتيم بالعملة المغربية آنذاك
يذكر أشرف غريب في كتابه “الوثائق الخاصة لليلى مراد” أن اتهامات كثيرة لاحقتها بولائها للكيان الصهيوني، بعدما نشرت صحيفة الأهرام صبيحة 12 شتنبر 1952 خبراً جاء فيه “منعت الحكومة عرض أفلام ليلى مراد وإذاعة أغانيها من راديو دمشق، لأنها زارت إسرائيل وتبرعت بخمسين ألف جنيه لحكومتها”
ويقال إن سبب هذه الإشاعة هو طليقها السابق أنور وجدي، بالرغم من أنها أعلنت إسلامها أثناء زواجهما سنة 1946، بحضور الشيخ محمد أبو العنين أحد كبار علماء الأزهر الشريف . وقد تسببت هذه الإشاعة في توقف إذاعة أغانيها فترة من الزمن في الإذاعات العربية حتى تبين كذبها لاحقاً. كما أصدرت الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية خطاباً ينفي علاقة ليلى مراد بإسرائيل بتاريخ أكتوبر 1952
لم تفكر ليلى مراد أبداً في العودة إلى مجال الفن، ولا بالخروج من مصر، بالرغم من تعثر أحوالها المادية؛ فباعت بناء كانت تمتلكه بحي جاردن سيتي، وأكملت حياتها في بيتها في شارع القصر العيني
وتدخل الموسيقار محمد عبد الوهاب لدى نقابة الممثلين ليصرفوا لها معاشا شهريا استثنائيا مقداره 200 جنيه. وحين التقى بها أحد الصحافيين وسألها عن رأيها في القنوات الفضائية التي تتابعها ضحكت ليلى مراد كثيرا وقالت” لما يبقى عندي “دش” أولا أبقى أقول رأيي في القنوات الفضائية”
بذلت مع ليلى مراد جهود سياسية مضنية حتى تسافر إلى إسرائيل لدرجة أن وزارة الخارجية الإسرائيلية عرضت منحها درجة المواطنة الشرفية لإسرائيل فرفضت حتى استقبال الملحق الإعلامي بالسفارة الإسرائيلية بالقاهرة، وطردته من على باب شقتها، ثم عادوا وعرضوا عليها منحها جواز سفر دبلوماسي إسرائيلي، ففعلت نفس الشيء مع الملحق والسفير ،بل وحاول معها شيمون بيريز وزير الخارجية وعرض عليها أن تكون سفيرة فوق العادة، وأبلغوها أن مميزات لا حصر لها تنتظرها في إسرائيل، لكنها أجابتهم بعبارة حاسمة ” أنا مسلمة ومصرية وسأموت كذلك “وعما إذا كان تأثر الشيخ المغربي ، جاء تعاطفا مع ليلى مراد لكونها من أصول مغربية ، أو أن الدافع كان إنسانيا محضا ، أو لأنها رفضت إغراءات “إسرائيل “وتمسكت بالإسلام دينا ،ربما يكون الأمر كذلك، يقول مخاطبنا، لكن الأكيد أنه كان مغرما بهذا الصوت الجميل ،الذي اكتشفه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وساعدها في خطوتها الأولى،وهو الصوت أيضأ الذي صفق له عمالقة الفن العربي حينما استمعوا إليه واستمتعوا به، وعلى رأسهم كوكب الشرق أم كلثوم