- أحمد طنيش
المغرب غني بتاريخه وتراثه، غني بتاريخ القبائل والزوايا غني بالتاريخ المكتوب والشفهي، غني بالحكايات التي لها شواهد حية ولها جدور وورثة، ومن الأكيد لها المبنى والمعنى، من هنا تدعوا الضرورة إلى استلهام هذا الكنز التراتي ومن هنا تكمن صعوبة المعالجة الدرامية التي تتناويل حكايات الحقب التاريخية القريبة سيما وورثة التاريخ الصغير والقريب ما زالت سلالتهم على قيد الحياة أو بالأحرى نسلهم مازال متواصلا، ودرئا لأي حساسية يتم اللجوء إلى تقنيات أخرى تبرز بالأولوية الأحداث وتتجنب الشخصيات؛ لذا كان الوعي الدرامي وكانت الإشارة في جينيريك المسلسل، أن “الرحاليات” تاريخ أحداث وليس تاريخ أشخاص، بعيدا عن كل لبس أو تشابه أو تشبيه.
من هنا أرى أن الرؤية الدرامية والمفاهيمية لسيناريو “الرحاليات”، كان حذرا وواعيا بهذه المعطيات، ومدركا أنه يعبر من التاريخ الصغير إلى الكبير، لكونه يفتح متحفا يضم حكايات تنتمي لسياقات تاريخية متعدد ومختلفة الأنماط والأسباب والجزئيات كما الكليات، وخيطها الناظم (أي حكاية الرحاليات) أنها تضم “العيوط” بمعنى صيحات الشيخات باعتبارهم نوعا من ثقافة الرفض والحرية و”التروبادور”، أي حياة الجوالة والتنقل الذي يعتبر إغناء التجربة الإنسانية التي تمتح من فعل المثاقفة.
يواجهنا مسلسل “الرحاليات” بالتاريخ الصغير والكبير معا؛ إذ يصنف المؤرخون، التاريخ إلى صنفين، لكل منهما هدف ووظيفة محددة؛ الصنف الأول هو التاريخ الصغير، وهو الذي يعني أخبار الشخصيات والأمكنة عبر الأزمنة ووظيفته رصد المؤامرات والصراعات الخاصة والعامة داخل القبيل والمحيط، والصنف الثاني هو التاريخ الكبير الذي يتناول حركة المجتمع والناس وضمنه التقاطبات والمركزيات، هذا ويوظف التاريخين معا لمعرفة السيرة والمسير وملامسة القدرة على التغيير للأفضل، لأننا مدعوون لكي لا نخلف موعدا مع التاريخ، وعليه فالمدخل المركزي هو هم الحاضر واستشراف المستقبل الذي له علاقة جدلية بالماضي وأحداثه ودروسه.
في ظل هذا المتحف يقف بنا سيناريو “الرحاليات” أمام تجميع ذكي ودرامي لتورايخ صغيرة لمجموعة من القياد في مراحل مختلفة من تاريخ المغرب في العصور القريبة وفي مناطق مختلفة من جغرافية المغرب المتعدد وبهذا الاختلاف والتنوع يناقش أطروحة سلطة القايد بوسلهام وطأنه اختزال شخصيات تاريخية في شخصية درامية والتي سنتتبع أثرها على الفعل الدرامي عبر مرجعية التاريخانية المتواثرة، وبذلك أصبحت شخصية القايد بوسلهام، شخصية درامية لخصت فيها معظم الشخصيات المشكلة لمجموعة من القياد الذين مارسو البطش في زمن السيبة والتحكم، وبموازاة لم يهمل السيناريو، “المعارضة” التي من الطبيعي أن تتشكل عقب كل تسلط، وقد شخصها في شقها الصوفي والفني خدمة لفعل الدراما وهو ترافع درامي يخاطب الحاضر باعتبار أن المجال الصوفي والفني آلياتان للحماية النفسية والروحية وآليتان لرسالة الحب والسلام، الذي نوده لهذا العالم.
من الفكرة والرؤية إلى الطرح الدرامي:
هنا لزاما أن أشير عبر هذه القراءة الوصفية الارتسامية المستلهمة من الحلقة الأولى التي أعتبرها إسهلالية لمسلسل “الرحاليات” الذي قدم لنا نوعا متميزا من الدراما التراثية، وذلك ليلية الخميس 23 فبراير 2023، بالقناة الأولى المغربية، كما أكدت مشاهد الحلقة الأولى أننا أمام سفر التاريخ حيث استقبلتنا الكاميرا من خلال بسط تقديمي لامس الأرض والتراب والطين، وكلها إحاءات من لغة التاريخ بمعنى أن الطرح الدرامي سيتناول سيرة الأرض وما يدب عليها، أي سيرة سير ومسار، ومن تم بدأت الحكاية التاريخانية تقدم جزئياتها التي ستكون هي المحور، إذ بدأ الخطو والمسير وتنهض الكاميرا لتأخد مشهدها الكبير وتعرفنا على الشخصية المحورية والأساسية “خيطانة” وشخصية أخرى تمثل الشر والحيل من خلال دلالة الاسم “الذيب” إذ قدم لنا المشهد الأول الذي جمع بينهما أن هناك حبكة بينهما ستقود الحكاية في جوانبها السردية، عبر كل يوم خميس له أفق الانتظار.
من أهم المشاهد البانية للحلقة الأولى في بعدها الغرائبي الوقوف على لوحة الطين وطليه على عمود يوشي أن هناك دفين يدور حوله صراع، ونقف عند سلطة القيد بوسلهام الذي يسخر مريديه وضمنهم ممثل الدين وبائعه والمتملق والخائف عن المصلحة والساكت عن الحق ليتسلط المتغطرس أكثر، كما نتعرف على المخالف والمتمثل في ابن القايد بوسلهام، الغير راض عن تصرفات الأب والمحيط، وكأنه احتجاج المستقبل، ونتعرف عن المرأة المناضلة التي تعلم أن زوجها لا ذنب له غير قوله “لا” للمتغطرس، من تم يحضر مجال التصوف في شقه التطهيري لتسمتر الحياة وحتما هناك أفق للتغيير.
في خضم كل هذه المشاهد التقديمية للحكاية وخيوطها المتناسلة، والذي قدم بشكل ملحمي درامي، سيما وكل المشاهد صورت برؤية سينمائية وكلها مشاهد خارجية، توشي أننا أمام بحث في التاريخ والتراث يوظف قرابة 62 ممثلا وممثلة من كل الأجيال الفنية، هو تقديم درامي للشخوص ولمستهم الفنية المعبرة من خلال الملابس والحلي والأكسسوارات أننا أمام طرح من تاريخ إلى التاريخ متفاعلا بالدراما، لذا لم يهمل الفضاء الدرامي أن وقف بنا أمام فرقة فنية جوالة تمارس الفن الشعبي المرتبط بقضايا الشعوب وحكاياتهم الموثقة لأهم سيرهم، وعبر ذلك الفضاء الحر المطل على الطبيعة بواد دي ماء وزرع ستنطلق منه الحكايات التي قدمت لنا خيوطها العامة. كما حضرت هناك إشارات ستقودنا في باقي الحلقات، ومنها أننا أمام سوق بدون كرامة، صدر هذا عن لسان أحد مناضلي السوق أمام الصامتين والراضين بالواقع، كما وقفت جل المشاهد أننا أمام “قايد بوسلهام” يمارس بطشه خارجيا وفي بيته بطش داخلي حتما سيكون له الأثر والتأثير وتمضي الحكاية بشكلها الدائري؛ إذ كانت البداية بمشهد “خيطانة” واختلافها مع الذيب وتهدياته، وصولا خطفها وانتهاء بهروب “خيطانة” لتنطلق الخيوط الدرامية في حبك الحكاية/الحكايات.