يعرف العالم الموسوعي والمؤرخ محمد بن عبد الله المؤقت فن الدقة المراكشية بالقول: «أهل مراكش في ليلة عاشوراء وقبلها بنحو عشرة أيام يستعملون اللعبة المعروفة عندهم بالدقة، وهي لعبة قائمة على ثلاث آلات: تعريجة، وبندير، وقراقيش، أما أصحاب التعريجة فعدد كثير جدا، وأما البندير، فواحد لا غير كالقراقيش»، وبالمناسبة فعبد الله ابن المؤقت اعتمدت المجموعتان الرائدتان ، ناس الغيوان وجيل جيلالة على بعض نصوصه في أغانيها ، فالأولى أخذت من مؤلفاته الصوفية نص أغنية « الله يامولانا» والثانية أخذت «الجفرية»، فالدقة المراكشية تعد من الفنون القديمة الضاربة في أعماق التاريخ ، أغلب الباحثين والدارسين يذهبون إلى أن بروزها بالشكل الملفت كان في عهد السعديين ، عندما كان التوسع على الساحل الأفريقي في أوج فتراته ، لذلك نجد اللمسة الأفريقية من خلال « القراقب» حاضرة في تفاصيل هذا اللون الفني المغربي الخالص، الذي كانت أحياء مدينة مراكش العتيقة حيث يستقر الحرفيون حضنا له، حيث كان لكل من هذه الأحياء فرقتها الخاصة من الدقايقية ، تمارس طقسها الروحاني هذا على رأس كل سنة بمناسبة عاشوراء، وهو طقس يبتدئ مباشرة بعد صلاة العشاء إلى غاية اقتراب موعد صلاة الفجر إذ تتنافس كل الأحياء على من سينجح في تأدية الطقس بالشكل المطلوب، سواء من ناحية ضبط العيط أو الإيقاع أو الأنغام، وفن الدقة اشتهرت به مدينتان وهما مراكش ومدينة تارودانت، وإن كان هناك اختلاف بين الباحثين حول أول مدينة ظهر فيها هذا الفن بين المدينتين ، كما سنعرض ذلك، فإن الجميع يجمع على أن لهذا اللون التراثي محددات مضبوطة وزمن للعرض ، في هذه السلسلة سنسافر مع القارئ إلى أغوار هذا الموروث الفني وتفاصيل طقوسه من خلال بحوث ودراسات قام بها باحثون مغاربة وفنانون ، تحفيزا للأجيال في أفق حماية الموروث الثقافي بصفة عامة
العربي رياض
يتواصل الجدل في البحث الذي بين ايدينا والذي انجزته جمعية سبعة رجال لفن الملحون والتراث ، حول الأصول الحقيقية لفن الدقة ، وبعد ان أسقطت فرضية الأصول الأفريقية لهذا الفن في البحث المذكور كما سجلنا في الحلقات السابقة ، مع ان الدفوعات مازالت قائمة مساندة هذا الطرح، أو كأضعف الإيمان تأثير الريح الأفريقية على فن الدقة ، لكن الجدل القوي يظل حول تأصلها بين المدينتين تارودانت ومراكش، وهنا نجد الطرح الذي يذهب إلى أن هذا الفن دخيل على مدينة مراكش، وأن أصله من مدينة “تارودانت” القريبة من مراكش من جهة الجنوب، وأن تسميته بـ ”الدقة” فيه إشارة إلى “الدِّقَّة” (بكسر حرف الدال وتشديده)في العزف، وقد ارتبطت بالزوايا والشطحات الصوفية، فكانت أقرب إلى فرق “عيساوة” و”احمادشة” وغيرهم، واستدلوا على صحة أقوالهم، بأن هذا الفن موجود على أصله إلى حد الساعة بمنطقة “تارودانت”، إضافة إلى ما يتضمنه “العيط” وطقس “الدقة” عموما من كلمات أمازيغية ترجع في أصولها إلى هذه المنطقة، وذلك مثل: “أفوس” / “الكور” / “لشير” / “أعراج”…، ويعزون دخولها إلى مراكش عن طريق أهل “تارودانت” الذين هاجروا إلى المدينة الحمراء للاشتغال بالدباغة وصناعة الجلود، وظلوا يمارسون فنهم ذاك داخل أحياء المدينة حتى عرفه أهلها وأتقنوه هم أيضا… وهنا يأتي الطرح الثاني المنتصر إلى أن اصول الدقة المراكشية يعود إلى مدينة مراكش ، إذ يعتبر أن ماذهب إليه الطرح الأول مردود عليه من عدة نواحي فمن جهة لا ينفي أصحاب هذا الطرح أن في مدينة “تارودانت” فن شبيه ب”الدقة المراكشية”، كما توجد ب”تازة” “دقة”، وب”وجدة” “دقة”، وب”دمنات” “دقة”، فهذا شيء يقول أصحابه : أننا لا نجادل فيه ولا نريد ذلك ، لأن لكل منطقة مطلق الحرية في أن تسمي فنها كما تريد، لكن الذي نؤكد عليه هو الاختلاف البين بين “الدقة الرودانية” و”الدقة المراكشية”، مهما حاول البعض أن يطمس هذه الحقيقة من خلال الاستفادة من التقليد، ومن تبادل التأثير والتأثر، لكن الفروق تظل دائما بارزة، ف”الدقة الرودانية” تعتمد مجموعة من “التعاريج” بمواصفات خاصة قريبة مما يسمى بمراكش ب “التعريجة الكاملة”، وتصاحب هذه “التعاريج” ثلاث “طارات” جمع “طارة” وهي “البندير”، ولا يوجد فيها زجل شبيه ب”عيط الدقة المراكشية”، وغالبا ما تكون مقدمة لإنشاد قصائد الملحون في حفلات خاصة، ولذلك يطلقون عليها “لَكرِيحَة”. أما “الدقة المراكشية” فيعزف ممارسوها على ثلاثة آلات موسيقية متباينة ومحددة الوظيفة، حيث نجد مجموعة من “التعاريج”، ثم “طارة” واحدة، و”قراقب”، مع ملاحظة هامة وطريفة ودالة حول هذه الآلات، ذلك أن “التعريجة” ترمز إلى المرأة في رهافتها، و”القراقب” للرجل في خشونته، أما “الطارة” فترمز لبكارة الفتاة العذراء، والدائرة “الكور” فضاء مغلق شبيه بالبيت المغلق الذي لا يعرف الآخرون ما يجري بداخله في إشارة إلى السترة، وهكذا تصبح ليلة “الدقة المراكشية” شبيهة بحفلة “عرس” ، وفي باب الاختلاف دائما بين الدقة الرودانية والمراكشية ،يقول رئيس الجمعية التي قامت بهذا البحث خالد ولد الرامي ، بأن هناك فرقا واضحا حتي من الناحية الشكل ، ففنانو الدقة الرودانية يجلسون بشكل نصف دائري لأما فنانو الدقة المراكشية فيجلسون راسمين دائرة كاملة ، لذلك فالعديد من ابناء مراكش يطلقون على هذه العملية ” الكور ” …