العربي رياض
ابن الصويرة عبد الرحمان باكو، من عالم «الهيبي» سيلج بحر الغيوان دون سابق تخطيط، لم يكن يعلم أن قدره سيقوده لبناء غناء جديد في المغرب مع شباب لا تربطهم به أدنى سابق معرفة، فقط ما يجمعهم هو الحلم بوطن يستجيب لطموحات جيلهم التواق للحرية والتقدم بعد سنوات جارحة من الاستعمار .. عن عالم «الهيبي» يقول باكو: صورة لا تفارق دهني كانت تتكرر بغابة الديابات، جمع كبير من «الهيبي» يلتف حول نار موقدة وأنا وسطهم أعزف على آلة السنتير، نقوم بذبح الماعز قبل بداية سمرنا الذي يقودنا غالبا إلى الجدبة بعد طول عزف،.. بعد الذبح يقوم الجميع ومنهم أطباء ومهندسون وأطر كبرى من مختلف الأجناس من العالم، بتلطيخ أجسادهم بدماء الماعز ظنا من الجميع أنها ستقيهم من الأرواح الشريرة والخبيثة المرافقة دوما للإنسان، وتحاول أن تثنيه عن مرافقة الجميل والنقي والصادق .. لمعظم هؤلاء إلمام جيد بالموسيقى، إذ كانوا ينسجمون معي كلية وأنا أعزف، حتى أن منهم من كان يفقد الوعي أثناء الدخول في الجدبة وكأنه ينتمي لعالم كناوة، ومنهم من يجهش بالبكاء ويدخل في موجة صراخ، ومنهم من يركن للصمت ينصت للآلة وكأنه في حالة خشوع، دون أن ينبس ببنت شفة .. لما يسافر بنا الليل إلى ما فوق المنتصف، وحين يأخذ الحال مأخذه من الجميع، تجد الكل يتخبط فوق الرمال، أو يمسك بشعره وكأنه أصيب بهيجان هيستيري، هكذا يظلون إلى حين سكوت السنتير ثم يستلقون وكأنهم أموات.
بعد مرحلة الراحة نجتمع مرة أخرى، يكون ضوء النهار قد أخذ في البزوغ، يتناول أغلب الحاضرين آلاتهم ونبدأ من جديد في عزف مشترك، ما نقوم به يخلق امتزاجا عجيبا لعدة أنساق موسيقية، تذكرك بامتزاج الشعوب والطقوس والعادات، لم نكن نتقيد بلون واحد من الموسيقى، فهذا يعزف الجاز والآخر يعزف الريكي أو البلوز وأنا أعزف الكناوي وهكذا .. ، لتصبح النتيجة خليطا بديعا بشكل ارتجالي وعفوي، ثمة لغة مشتركة تجمع بين هذه الأشكال الموسيقية، لعلها الروح تفعل فعلها فينا ..
كنت خلال هذه الفترة قد تعرفت على السوسيولوجي الفرنسي جورج لاباساد، الذي كان يتردد على الصويرة لإنجاز أبحاثه ودراساته حول طائفة كناوة وأصولها، توثقت علاقتي به كثيرا، فأصبح يلازمني ويرافقني لبعض الليلات، من أجل الغوص في المعرفة أكثر وعن كثب، هذا الأمر أزعج بعض « لمعلمين « واعتبروه مسا وانتهاكا لحرمة « كناوا «، مع ذلك استمريت في الدفاع عن حق لاباساد في ولوج هذا العالم، أكثر من هذا طلبت بالسماح له لدخول الزاوية وأقنعت الكثير من لمعلمية بأن الرجل يريد فقط من خلال معايشة طقوسنا، أن يدافع عن فن كناوة، ويعيد الاعتبار لهم، بالنظر إلى تجذرهم الفني وتنوع عطائهم الإبداعي، هكذا وافق البعض بصدر رحب، وهناك من تقبل الأمر على مضض، فأصبح هذا الباحث إلى جانب أسماء أخرى لها صيت عالمي في مجال الموسيقى والنحت والتشكيل يحضرون الليلات سواء بمنازل المقدمات أو بالزاوية الكناوية « سيدي بلال «.. أتذكر ذات ليلة اكتظت الزاوية بالناس على مختلف مشاربهم وجنسياتهم ودياناتهم، وأقيمت الطقوس الكناوية بأكملها، مما خلق انطباعا جميلا لدى كل الأجانب الذين حضروا..، أعدنا الكرة في ليلات أخرى إلا أن الأمر، لم يعجب بعض المعلمية الذين سارعوا إلى رفع شكاية إلى باشا المدينة إذاك، بدعوى أنني أشجع الأجانب على ولوج عالم كناوة « المقدسة «، وبعد لقائي مع المسؤولين فسرت لهم موقفي وبأن حضور الأجانب لن يفسد لتاكناويت أي قضية، وهو ما تفهموه ومن تم أصبح السواح والأجانب لا يمنعون من دخول الزوايا التابعة لكناوة ….
ظلت منطقة الديابات نواحي الصويرة، وخلال عقدين من الزمن مقصدا ومسرحا لتجمع عالمي، لكل من عانق وآمن بالأفكار التحررية، التي كانت ترفض تجليات الحضارة المادية، وتغيب الروح لتحقيق مآرب سياسية واقتصادية آنية، والكل كان يعرف المرحلة الحساسة التي كان عليها المغرب آنذاك، ورغم الإحباط الجماهيري ظل الحلم بالغد الأفضل واردا، وكان لابد خلال هذه الآونة من ظهور أشكال تعبيرية جديدة تثور في وجه الأنماط الإبداعية السائدة، وتقترح ألوانا جديدة يكون للإنسان فيها حضور حقيقي يوازي تلك الأفكار والطموحات… في هذا السياق ظهرت مجموعة ناس الغيوان التي كانت تضم إذاك مولاي عبد العزيز الطاهري وبوجميع والعربي باطما وعمر السيد وعلال، عند سماعي لأول عمل خرجت به المجموعة، وجدتني منجذبا إليها سواء على المستوى الموسيقي أو على مستوى النصوص المستعملة، كنت أود لو سنحت لي الفرصة أن ألتقي بهؤلاء، ليس للعمل معهم، لكن فقط للإنصات إليهم عن قرب، فقد استمالتني كثيرا الطريقة التي تم من خلالها التعامل مع التراث بالإضافة إلى الأصوات، التي كانت تتمتع بها المجموعة، وأخص بالذكر صوت العربي وبوجميع