بمناسبة اليوم الوطني للمسرح، وفي خضم الاحتفالات “الحكومية” بافتتاح بعض المهرجانات والمسارح والفضاءات الثقافية المعطلة منذ عقود، ودون محاسبة من كان وراء هذا التعطيل الذي، مع الأسف الشديد، نتج عنه فراغ ثقافي ومسرحي كبير، خلق قطيعة متعمدة بين الأجيال الصاعدة ورموزها الثقافية الوطنية. قطيعة تستهدف بشكل كبير الذاكرة الثقافية والمسرحية الوطنية، التي ارتبطت بالنضال الفكري والثقافي من أجل تحرير الوطن ومن أجل التحول الديمقراطي وتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، التي هي في الأساس جوهر المسرح منذ عصر الإغريق إلى اليوم، بحيث لم يكن أبدا دور المسرح مختصرا في الترفيه، بقدر ما كان دوره هو التأمل في الواقع الإنساني والسعي إلى الارتقاء بالمجتمعات الإنسانية.
في خضم كل هذا، نفتتح مسارح جديدة، بعد الإجهاز – منذ زمن- على المسرح المغربي الوطني، الذي تمتد جذوره إلى الحركة الوطنية، وبعد رحيل رجاله ونسائه من الفنانين المحترفين، مغتالين بالتهميش والاضطهاد والتفقير والإحباط واليأس.
نفتتح فضاءات ثقافية، في غياب، أو بفعل تغييب رؤية ثقافية لتلك المشاريع، وباحتفالات رسمية، وكأنها إنجازات “حكومية”، بينما هي في حقيقة الأمر مكتسبات نضالية لفنانين ومثقفين قاوموا بالمسرح من أجل استقلال المغرب عن فرنسا، وناضلوا منذ الاستقلال في سبيل خلق بنية تحتية لمشروع ثقافي مغربي. وقد تزعم مختلف هذه التنظيمات الفنية المهنية عميد المسرح المغربي، الأستاذ عبد القادر البدوي، رحمه الله، وتبلورت في تأسيسه لأول نقابة فنية مهنية في المغرب سنة 1978، وهي النقابة الوطنية لرجال المسرح، والتي تعرضت للإجهاض لأسباب سياسية طبعت تلك المرحلة، وتحدث عنها باستفاضة في كتابه “سيرة نضال”. لكن ذلك لم يثنه عن الاستمرار في مقاومة كل أشكال الاستبداد والفساد وفي فضح أجندات الغزو الثقافي، التي استهدفت بشكل كبير الهوية الثقافية الوطنية، عبر مقالاته التي كان ينشرها على مختلف الجرائد، والتي جمعها في كتاب “دفاعا عن المسرح المغربي”، والذي قدم بسببه إلى المحاكمة، حيث دفع فاتورة نضاله بتهميش مسرحه، إلى حد وصل إلى منعه من الظهور على الشاشة ومنع أعماله من البث على القنوات العمومية، كما منع، قيد حياته، من دخول مقر الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية بالرباط، مع العلم بأنه يعتبر من مؤسسي الدراما التلفزية الوطنية، ومنع أيضا من دخول مبنى القناة الثانية بالدار البيضاء، التي تحظر أيضا إعادة بث أعماله المسرحية التي صورها لفائدتها، والتي تحتوي على أهم مسرحياته، نذكر منها مطربة الحي، المتقاضون، وصية الثعلب، راس الدرب والبخيل …..
وبينما نشاهد على مختلف القنوات التلفزية العالمية والعربية مسرحيات من التراث المسرحي لتلك الدول، تبث في مختلف المناسبات، تعمل قنواتنا المغربية، مع الأسف الكبير، على إقبار تراث مسرح عبد القادر البدوي، وترفض الإفراج عنه حتى بمناسبة اليوم العالمي للمسرح أو اليوم الوطني للمسرح.
ورغم ذلك، لم يكل هذا الرجل الاستثنائي في تاريخ المسرح المغربي، ولم يمل من المطالبة بتحرير المشروع الثقافي الوطني من اللوبيات الفرنكفونية، التي حملها مسؤولية تعطيله على جميع المستويات، إلى أن فجر المسكوت عنه في أحد البرامج التلفزيونية، عقب استضافته بمناسبة اليوم العالمي للمسرح 27 مارس 1991، وهو البرنامج الذي شاهده جلالة الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله وخصه باستقبال ملكي، بمعية مجموعة من الفنانين المغاربة، وعينه على رأس اللجنة الملكية التي كلفت بإعداد تصور عام للنهوض بالمسرح المغربي، حيث كان من ضمن المطالب المهمة التي تم تقديمها لجلالته آنذاك، إعادة فتح القاعات وصيانة المسارح القديمة وبناء المسارح والفضاءات الثقافية في مختلف أنحاء المملكة، وهو ما تبناه الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، وأصدر بشأنه رسالة ملكية بتاريخ 14 ماي 1992 قصد النهوض بالمسرح المغربي وتحسين أوضاع فنانيه المحترفين، لكن للأسف لم تتبن الحكومات المتعاقبة إلى اليوم ذلك المشروع الثقافي الوطني، ليظل المسرح المغربي الاحترافي يتهاوى، ويتهاوى معه ثراثنا الثقافي في شموليته .
واليوم، وللمفارقة، وبعد أكثر من ثلاثين سنة عن اللقاء الملكي، نجد أنفسنا نحتفل بافتتاح بعض المسارح، وكأنها إنجاز الحكومة الحالية، رغم أن الحكومات المغربية، ومن دون استثناء، لم تعط الاهتمام اللازم والمطلوب للذاكرة المسرحية الوطنية، والتي يشغل فيها مسرح عبد القادر البدوي حيزا مهما، كيف لا وهو المسرح الذي يمتد عمره لما يفوق السبعين سنة. ومازال إلى الآن حاضرا وبقوة داخل المشهد الثقافي الوطني رغم كل أشكال التهميش والإقصاء الذي لازال يتعرض لها حتى بعد رحيل مؤسسه من طرف بعض القائمين على إدارة الشأن الثقافي والسمعي البصري.
لقد ناضل عبد القادر البدوي منذ الاستقلال من أجل دمقرطة الثقافة وطالب ببناء المعاهد والمسارح والأكاديميات العليا للفنون في مختلف جهات المملكة، وقدم عروضه بالقرى والجبال والمدارس والجامعات والمناجم والثكنات العسكرية والمصانع وطوع كل الفضاءات وحولها إلى أماكن لعرض مسرحياته، متحديا سياسة غلق المسارح ودور السينما ودور الشباب، وناضل من أجل الحقوق المهنية ومن أجل كرامة الفنانين المحترفين ومن أجل تحرير المشروع الثقافي الوطني. ورغم ذلك لازال تراثه المسرحي في قاعات الانتظار بوزارة الثقافة. وعندما تتحدث عن مسرح البدوي فإننا نتحدث عن مؤسسة ثقافية وطنية عريقة لا يقتصر دورها على تقديم عروض مسرحية، بل تشمل أول مركز ثقافي لتدريس الفنون المسرحية بالمجان، تأسس سنة 1958 بالدار البيضاء وتخرجت منه مختلف الأجيال الفنية في المغرب. وهو أيضا مركز للتوثيق والأبحاث المسرحية والفنية حيث يمد مختلف الباحثين والمهتمين بالشأن المسرحي مغربيا وعربيا ودوليا وطلبة الجامعات الوطنية والدولية بمادة تاريخية مهمة، تؤرخ لجزء كبير من تاريخ المسرح المغربي من نافذة مسرح عبد القادرالبدوي. بالإضافة إلى نشر الكتب وتنظيم معارض توثيقية وتنظيم مهرجان مسرح البدوي بإيفران وهو أقدم مهرجان ثقافي بالمغرب وفي منطقة الأطلس تأسس سنة 1971، ولازال مستمرا إلى اليوم رغم ضعف الميزانية .
وتجدر الإشارة إلى أن 14 ماي هو ليس يوم وطني للاحتفال بالمسرح كأب للفنون، وإنما هو يوم لإحياء الذاكرة النضالية للفنانين المحترفين المغاربة وتضحياتهم الجسيمة من أجل استقلال الوطن ومن أجل بناء هذه الأمة والارتقاء بالمشهد الفني والثقافي الوطني وبأوضاعهم المهنية والاجتماعية الكارثية، التي تساقط على إثرها أعظم المبدعين ومازالت تنذر بنفس النهاية الدرامية للأجيال الصاعدة من الفنانين المحترفين، إذا لم يتم تعديل قانون الفنان الحالي.
وخير ما ننهي به هذا البيان، مثل صيني يحضرنا في مثل هذه المناسبة: “عندما تشرب الماء لا تنسى من حفر البئر”.
مسرح البدوي
14 ماي 2023