إعدام «الذاكرة العمرانية»!
#حميد_بنواحمان
من بين المدن التي تعرضت – ومازالت تتعرض – “ذاكرتها” العمرانية لشتى محاولات المحو والتشويه ، مدينة الدارالبيضاء، لدرجة أصبح من العسير على المرء أن يتجول ببعض أحيائها “المرجعية ” ، دون أن يحس بالألم جراء ما يقع من “اعتداء ” لن تكون فواتيره ” المعنوية ” ، بالتأكيد ، إلا باهظة . وضع سبق لجمعية “كازا ميموار ” أن دقت بشأنه ناقوس الخطر عقب إصدارها ، في بحر سنة 2013 ، ل ” دليل معمار القرن العشرين بالدارالبيضاء “، والذي جاء في تقديمه أن “تصنيف المدينة في مرحلة أولى كتراث وطني ، ثم في مرحلة لاحقة كتراث عالمي من قبل اليونسكو … خطوة أساسية ستكون الوحيدة القادرة على أن تُشكِّل صمّام أمان صلب قادرعلى مواجهة الحملات المسعورة التي يتعرض لها حاليا هذا التراث المعماري البالغ الثراء…”. دليل أشار لعشرات “النماذج المعمارية” التي فقدت «هويتها الأصلية» ذات المرجعية التاريخية الغنية، تحت تأثير«العامل الطبيعي» وتوالي السنوات، أو بفعل قرارات إدارية «غيرمسؤولة» كبّلتها «الغاية المادية» الجاهلة لحقيقة مفادها أن «بيضاء اليوم» لم تُؤسس من فراغ أو هي «تجمّع بلاجذور»، إذ “كانت تجربة للمعمار الحضري ومختبرا للحركات المعمارية العالمية المتفرّدة ما بين العقد الأول والعقد السادس من القرن العشرين”.
قرارات أعدمت «المسرح البلدي» بهندسته الفاتنة، لتُجبر ساكنة «العاصمة الاقتصادية» للبلاد، على تجرّع مرارة « يُتْمٍ ثقافي» لم تفلح «المسارح الجماعاتية» المُقامة في النفوذ الترابي لهذه الجماعة / المقاطعة أو تلك ، في الحد من تداعياته المدمرة، فضاعت المدينة في عدد كبير من خيرة مُبدعيها / فنانيها، الذين تاهوا في دروبها «المظلمة» الحبلى بعناوين التشاؤم والانكسار.
مصير المحو الممنهج ل«ذاكرة الجمال»، بمفهومه الشامل ، لم تسلم من قساوته ، أيضا ، عشرات القاعات السينمائية التي شكلت ، في العقود الماضية، علامةً مائزةً لأحياء بعينها. كما هو شأن ، تمثيلا لا حصرا، قاعات ” مونتي كارلو، فاميليا ، مونديال… بالمعاريف، فيكتوريا .. ببوركون ، ولارك ..بالزيراوي.. ” ، التي يجهل شبان ويافعو الأحياء ذاتها، اليوم ، كل شيء عن ماضيها، بعد أن فتحوا أعينهم على محلات تجارية وخدماتية… رأى المُنافحون عن منطق “الأسمنت الأعمى” ، أنها الأجدر بالتواجد بهذه البقع الأرضية، بدل بنايات تحمل بصمات جمالية لمهندسين من جنسيات مختلفة ( فرنسية ، إيطالية ، بريطانية …)، يمثلون مدارس هندسية متعددة المشارب تعتبر نموذجا راقيا لتلاقح الحضارات، وينظرون إلى “تصاميم البناء” نظرة الفنان التشكيلي المهووس ب”هاجس” إنجاز لوحة تُخاطب العمقَ لا السطحَ ، الباطنَ لا الظاهرَ، حتى يضمن لها أسباب “التوارث” التلقائي بين الأجيال.
استمرار إعمال “المقصلة” في العديد من المباني ذات الحمولة التاريخية الثرية ، بمنطقة المعاريف وغيرها ، في ظل “صمت ” غير مفهوم من قبل الجهات – السلطات المعنية ، يطرح أكثر من سؤال من قبيل : هل المِلكية الخاصة لبعض هذه البنايات تُعفي أصحاب القرار ، في مختلف مواقع المسؤولية، من “الاجتهاد” قصد إيجاد صيغة تحفظ للبناية طابعها “الذاكراتي” ، وتتيح لأصحابها ، في الآن ذاته ، إمكانية “الاستفادة المادية” ، من خلال تعويضهم بما يتلاءم من “أرض ونقد”، على غرار تجارب مجالس منتخبة بحواضر بلدان في الضفة الأخرى من المتوسط تحتل “صيانة تراث المدينة، المادي والمعنوي” مكانة محترمة داخل أجندة أولوياتها ؟ ما المانع من تشكيل “لجنة تتبع” ، يمثل أعضاؤُها السلطات المحلية والمنتخبة وجمعيات المجتمع المدني ذات الاختصاص ، يُراعى رأيها “الاستشاري” قبل إعطاء الضوء الأخضر لهدم هذه “البناية” أو تلك ، بالنظر لما للعملية من “استثناء” يستوجب عدم التعاطي معها كما لو أن الأمر يتعلق بإرسال جرافات ل”محو” أثر أبنية عشوائية “نبتت” في جنح الظلام؟
إن رفع “الراية البيضاء” أمام “الاعتداءات” التي تطال الموروث المعماري للمدينة ، والتي لا يحلم”أبطالها ” سوى بتحويل كل شبر من ترابها إلى مُتواليات من «الأسمنت المرصوص» ، المفتقدة لأي مُسحة جمالية تُريح عينَ ناظرها من الخارج وتُنعش فؤادَ “مُستوطِنها”، سكنًا أو وظيفةً، دون اكتراث لا بما يرمز ل”الماضي” من أحجار، لا تحتاج سوى إلى ترميم ، ولا بما يضمن سلامة الصحة العامة في الحاضر والمستقبل من أشجار “تُغتال” في واضحة النهار، يُشكل مسلكا خطيرا يهدد الأجيال القادمة بأوخم العواقب في ما يخص طبيعة ارتباطها ب “ذاكرة” المدينة ، عُمرانا وإنسانا، والتي كُتبت محطاتها المختلفة ب”عقود” من جُهد و عرق ودم … الآباء والأجداد.
وضعية بالقتامة المشار إلى بعض عناوينها أعلاه ، ألا تستحق تعاطيا جديا وعاجلا من قبل الجهات المعنية – كل طرف من منطلق اختصاصاته – ، وذلك تفاديا لصنع ” جيل بلا ذاكرة ” ، يحدق به “المجهول ” من كل جانب ، والذي لن يكون ، بطبيعة الحال ، سوى “جيل بلا مستقبل” ؟!