“المدقق اللغوي” بالمؤسسات الصحافية : مهنة الظل أو حراس اللغة الأوفياء
dade24 | ضاد 24
عزيز الحلاج
اللغة وسيلة لإظهارالفكر، فإذا عطبت، تعثرت الرسالة في الوصول إلى المتلقي. ومن المؤسف له، أن وسائل الاتصال المنطوقة والمسموعة والمكتوبة، لا يُعير معظمها أهمية للغة، بدعوى أن الزمن زمن السرعة، وأن اللغة لاقيمة لها إلا في ما تؤديه، وأن المصادر البلاغية والعَروضية واللغوية والنحوية والصرفية والإملائية..أو بكلمة أخرى” الثقافة الصفراء”قد تم التجوّز عنها
وإذن، لم يعداليوم عيبا اللحنُ في اللغة، ولا تهيّبُ تلك الأخطاء في اللغة والصرف والنحو ، ينضاف إلى هذا، غرور كثير من الأقلام، أو استخفاف المؤسسات بدور المدقق اللغوي بفهم أنه بسيط وسطحي، وفي متناول الجميع، والواقع أنه تخصص له قواعده وأصوله، والمدقق ليس مطالبا فقط بالوقوف عند تصحيح الخطأ نحويا أو إملائيا أو صرفيا.. بل يتعدى ذلك إلى ضبط المعلومة ومحص الخبر
كم من القراء يعزفون يوميا عن جرائدنا ليس لأن بها أخطاء من أي درجة تَتخلل موادها فحسب، ولكن أيضا لأن أخطاء فادحة وفاضحة تلوّح بها عناوين بالبنْط العريض، توسّمت إدارة الجريدة أن تسترعي الانتباه وتسرق الأضواء..فإذا بهاتخدش الذائقة اللغوية، وتقدم معنى آخر يعزف سهوا على وتر حساس..فيه إيماء وتعريض.. والأمثلة كانت ومازالت وتتجدد يوما عن يوم
لا عجب أن دور المدقق اللغوي ما فتئ مغيّبا، مادام بعض المنشآت الصحافية.. يرى في وجوده مجرد راتب إضافي، أو وظيفة ثانوية لا تضيف قيمة ولا أهمية. وقد عزز إقصاء دور المدقق اللغوي طبعا أقلامٌ، يعتمدون على شهرتهم ومكانتهم في المجتمع، يكتبون أي شيئ بأسلوب يزيغ عن القاعدة اللغوية الصحيحة،.. يوظفون الكلام العامي أو ينحتون ماشاء لهم، بدعوى أن ذلكالابتداع الذي يمجّه الذوق إبداع،زد على ذلك أن كثيرا من المتدربين الذين يفرخهم بعض معاهدنا الإعلامية، أو بعض المحررين القدامى والجدد، يُنزلون كتاباتهم، ولا يقبلون أن يغيّر أو يصوبَ لا مضمونُها ولا شكلُها -وهذا شأن كثير ممن كان أو مافتئ يزاول مهنة التدريس أو ينظم الشعر، اعتقادا منهم أنهم يملكون ناصية اللغة، أو أنهم –كما يدعون-يتوجهون إلى جمهور قراء خاص،أو أن اللغة مجرد أداة لا تعكس فكرا ولا مستوى ثقافيا، والحال أن الإنسان-حتى لو كان متمكنا وضليعا، فإنه يبقى خطاءً ونسّاء وسهوانَ ، فقد تخرج عن نيته ورغبتهكلمة شائكة جامحة، فتسيئ ليس لشخصه فحسب، وإنما للمنشأة برمتها
وقد ذهب بعض المتتبعين إلى أن “التدقيق اللغوي” إنما هو مجرد مهنة، أو بالأحرى مهنة من لا مهنة له، وذكر آخرون أن التدقيق اللغوي “مهنة المتاعب” أو “مهنة الظل”، لها جنود خفاء يبذلون قصارى الجهد، مهيأون نفسيا، مسلحون معرفيا لمواجهة الأخطاء الصغيرة أو الجسيمة،الظاهرة أو المثيرة، من أجل عيون منتوج قابل للتسويق والتنافس. ووصف بعض آخر “التدقيق اللغوي” بأنه ليس مهنة، وإنما هو فن أو تفنن في رصد أو اقتناص تلك الأخطاء التي من شأنها أن تُطوّح ليس فقط بشخص المدقق،بل قد تدفع بالمؤسسة ككل إلى المساءلة والمحاكمة فالإفلاس ، ثم الإغلاق، فتقطع أرزاق كثير من الناس
عندما يفرغ المحرر من الكتابة على الورق أو الرقن على آلة الحاسوب، يبدأ عمل المدقق اللغوي، لكن ما يعثّر عمل هذا الأخير، أن بعض المحررين والمراسلين بوجه خاص، وكثير من المواطنين الذين يبعثون بشكاياتهم للمؤسسة،يفتقرون-فعلا- إلى ثقافة تؤهلهم لتحرير نص بعربية سليمة، لضعف في التكوين،أو تحجج بأن الزمن لم يعد زمن العربية السليمة
وبالمحصلة، فإن المدقق اللغوي، بمواصفاته، مستوى دراسي ممتاز، واهتمامواضح بمجال اختياره، مهم جدا في المؤسسات التي تُعنى بالكلمة، ومطلوب في سوق العمل، لأن بمُكْنتهتحقيق الإنتاجية والمردودية، غير أن كثيرا من المنشآت الصحافية تغمطه حقه، ولا تعترف به حارسا للغة ، وركيزة وقيمة إضافية. لذلك قلّما نسمع عن تنظيم إجراء مباراة في التدقيق اللغوي..أومن بعدُ عن تنظيم دورات تكوينية للمدققين اللغويين، علما بأن مهمة المدقق اللغوي خطيرة ، تستدعي، كي يقوم بعملية شذب وتقليم المواد أو الموضوعات،حتى تصير جاهزة للنشر، صالحة للقراءة من غير عُسر أو تعقيد أو تنفير، جهدا وتركيزاومهارة واستعدادا قبليا ونفْسيا ونفَسا وطاقة فياضة واطلاعا واسعا، لاسيما في مضمار المراجعة، لإخراجمواد بعض المحررين منقحة، من اللامعنى والغموض والضبابية والركاكةوالتكرار الممل والإطناب والحشو.. التيمن شأنها أن تشوش على ذهن القارئ وتبعث الملل والنفور في نفسه، وبذلك تتحقق عملية التواصل بين الباث والمتلقي